كأي عربي: أتلقف أخبار ما يحدث في لبنان هذه الأيام وثورة شعبها ومطالبهم من خلف الشاشات، وعبر الوسائط المختلفة، وأنتظر المصير الذي يستحقه هذا البلد الفريد وهذا الشعب المميز، لكن الفرق أن سيل الذكريات التي تحمل لبنان وكل ما هو لبناني، لا يتوقف مع كل التفاتة خاصة وإن كانت هذه الذكريات مغموسة في أبدية الطفولة البعيدة في روحي وأيامي. ولعل من حسن حظي أنني من ضمن كثير من جيلي ممن تأثر بالثقافة اللبنانية -بالإضافة للمصرية- مع بداية عهد الصحوة في بلادنا واحتكاكي المباشر بها منحني حظا أوفر يظهر لي فيه لبنان بوجهه المشرق الجميل البعيد عن الشعارات والأحزاب والأيديولوجيات أيا كانت.

العمق الفني والثقافي الذي تشكل في ذاكرتي البكر كان لبنانيا بجدارة، فصوت وديع الصافي وطروب نصري شمس الدين وسامي كلارك وغيرهم من أصوات الميجانا والعتابا والمواويل، كان يشق صدر الفجر في منزلنا دون مبالغة، وتمتزج معه دندنات أمي وجارات الحي اللاتي ما إن تشرق الشمس حتى يكن قد بدأن «جلي» وجه النهار، وذائقتنا نحن الصغار الذين كنا نركض وسط تفاصيل دقيقة من الضحك والصرامة، وكنت من بينهم أركض وحيدة في سؤال أبدي عن سر اللون الأخضر في عيني ابن الجيران.

لم تكن الأغاني والموسيقى اللبنانية فقط فاتحة اطلاعي في الصغر، فأول أخبار سياسية نالت اهتمامي وانتباهي قبل ذهابي المدرسة كانت عن لبنان ورؤسائها وحروبها الأهلية. فهمت معنى كلمة احتلال وقيمة الوطن في نقاشات الرجال وهم يعودون آخر اليوم محملين بالتعب والنقاشات، يضعونها على طاولة مساء كل المنازل لنتشاركها، يعلو بين نقاشاتهم اسم إسرائيل كثيرا وما تعقبه بعدها من شتائم تحاول أن تتداركها أمامنا الأمهات، وقد تكاد المرة الأولى التي أسمع فيها اسم «أميركا» كان أيضا عبر لبنان (تفجير السفارة الأميركية عام 83). هذه الأخبار السياسية والتحليل العميق الذي أسمعه بدهشة دون فهم واضح كان يدور وعدة أوراق تدور بين أيديهم -رجالا ونساء- عرفت لاحقا أن اسمها صحف، وكان أكثرها لفتا لنظري واهتمامي وأتلقفها من أيديهم سريعا لتصفحها مثلهم، تلك التي كان لها لون عيني ابن الجيران (الشرق الأوسط).

على الرفوف الخشبية البسيطة التي ترتاح عليها صحف اليوم السابق، كانت السيدات تهتم أكثر لأوراق متراصة بأناقة أكثر تملؤها الصور الملونة والفلاشات السريعة والمقالات المطولة التي لم أفك حروفها إلا بعد سنين. مجلة نادين تملؤها صور الفاتنات بتسريحات الشعر والماكياج الحديثة والملابس الجريئة، وتنعكس هذه الصور على فتيات الحي المراهقات والسيدات الأنيقات، تماما كتأثر مائدتنا بالصفحات الأخيرة التي تضم وصفات مطبخ محلية أو عالمية تتقنها والدتي بمهارة واحتراف وتتبادلها مع الصديقات. ولا أنسى فرحتي برؤية صورة السيدة أم كلثوم في مجلة أخرى اسمها الموعد مع صور لمطربين آخرين تشكلوا في ذهني صورا قبل الصوت. السبق الإعلامي اللبناني في ذاكرتي من خلال الصحف والمجلات رافقه تشكل وعي امتد سنوات المراهقة مع تكرار أسماء تظهر على أغلفة الكتب أو بين نقاشات الكبار، مثل جبران خليل جبران، وغسان كنفاني، وإيليا أبوماضي، وسعيد عقل مع أمثالهم من مصر والعراق.

في مرحلة ما كدت أجزم أن اللون الأخضر هو رمز لكل ما هو لبناني، لون الزيتون والزعتر، أوراق الغار ومسحوق المتة، شجرة الأرز التي كنت أرسمها جوار النخلة، الطائرات الورقية وعينا ابن الجيران اللتان غادرت معهما بعيدا نحو الغربة هربا من سحق تلك الحروب، وتلك الانقسامات الطائفية التي يبدو أنها كانت تحتقن داخل الأنفس وتعتمل حتى انفجرت بركانا قبل أيام في أنحاء لبنان.

قبل سنوات قليلة كان عنوان إحدى مقالاتي هنا في «الوطن» يحمل اسم أغنية للراحل الكبير وديع الصافي (بتحبني وشهقت بالبكي)، كنت أتحدث فيه عن أبها التي تتقاطع كثيرا مع لبنان في خيالاتي، والتي يحمل أحد أحيائها اسمها. واليوم وأنا أتابع أحداث ثورة لبنان ومواقف شعبها الذي نزل للشارع لا يحمل أي أعلام طائفية ولا لافتات مؤدلجة، بيده فقط علم لبنان بأرزته عاليا وشامخا، يخطر لي صوت وديع أيضا وهو يغني بصوته الجبلي: «يا ابني بلادك وقلبك أعطيها»، وأكاد أجزم أنه يعني بها كل لبناني اليوم آمن بحقه في وطنه الخالي من الطائفية، صافٍ كذكريات الطفولة التي لا يشوبها نزاع مؤدلج، مشرق بالاخضرار كعيني ابن بيروت «الحلوين» اللتين طارتا بعيدا خلف طائرات الحرية الورقية.