يتّخذ الخلاف والتوتر والجدل بين قطبين: رجل الدين، والمثقف، في قضايا الأمة والمجتمع والحداثة وتطبيق الشريعة الإسلامية، والتعامل مع مستجدات الحياة وتطورها، ودعم الدولة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني والمجالس التشريعية، أشكالا متعددة وطرقا مختلفة، معتمدة على الأدوات والوسائل المتاحة لكل طرف منهما في ساحة المجتمع، وقوة نفوذه الإعلامي والاجتماعي والديني والثقافي والعلمي.

هذا الخلاف -إن صحّ وصفه- يأتي خلال خلفيات مرجعية وتاريخية وأيديولوجية، حول طبيعة مسؤولية رجال الدين تجاه تطبيق الشريعة الإسلامية، وفق الكتاب والسنة، والفهم التطبيقي والتوظيف العملي لهما في حياة الأمة، وفي الدفاع والمطالبة بعدم اختراق الحداثة والأنظمة الوضعية، والمنتجات الفنية والتكنولوجية والعلمية والثقافية حياة الناس، حتى لا تشغلهم عن عبادة الله، أو الوقوع في المحرمات.

وتم تأصيل هذا المفهوم في العقل الجمعي الإسلامي، حول أحقية رجال الدين في النيابة العامة، والشمولية في رعاية شؤون المجتمع والحفاظ عليه، مع المنزلة العليا والقداسة لهم، سواء في أمور الدين أو شؤون الدنيا.

مع نمو المجتمعات الحديثة والانفتاح عالميا وعلميا وفنيا وثقافيا وتكنولوجيا، والدخول في عالم التخصصات في كل شؤون الحياة ونواحيها، بدأت فئة المثقفين من المجتمع تتصدى للمطالبة بالتطور والانفتاح، عبر الأدوات الجديدة والوسائل الحديثة التي تستخدم أدوات الفن والكتابة والعلم والقوانين والأنظمة والتشريعات والحريات الشخصية في بناء المجتمع الحديث، معتمدة على مرجعيات جديدة ليست بالضرورة إسلامية، وإنما قد تكون تاريخية أو ثقافية أو علمية، وقد تتخذ من المناهج الوضعية الحديثة أساسا لتطوير فكر ورقي الإنسان، بعيدا عن أحداث التاريخ الإسلامي وظروفه واحتياجاته وتطبيقاته، وهي تشترك مع رجال الدين في الأصول العامة في الكتاب والسنّة، وعدم الالتزام بالتفاصيل التي أفرزها تفسير النصوص الدينية وطبيعة الحياة وظروفها، وتطور العلم والأدوات.

في الثمانينات، ومع صعود المدّ الإسلامي ورجال الدين في المجتمعات العربية والإسلامية، وحركتهم الإصلاحية في تصحيح مسار المجتمع، والرجوع به إلى عصر الخلافة الراشدة، أو الإمامة وأنموذجها في قيادة المجتمع نحو الصلاح، بعد وصفهم لفشل التنويريين والأحزاب السياسية والحركات الثقافية في بناء المجتمع وتقدمه، وعلى ضوء ذلك نشأ التوتر والخلاف والمواجهة بين فكر التيارات الإسلامية بقيادة رجال الدين، ومعارضة المثقفين لمناهجهم وأدواتهم ومرجعياتهم.

وأصبح رجل الدين والمثقف يتصدران المشهد الإعلامي والحركي، مع غياب كثير من فئات المجتمع والتخصصات الأخرى عن الساحة والحراك التنموي، يحاول كل منهما إزاحة الآخر وتشويه صورته، والطعن في مرجعياته وأطروحاته في فهم الدين والسياسة والاقتصاد، وبناء مؤسسات الدولة المدنية ومرجعياتها وتشريعاتها وقوانينها وإدارتها.

هذا الاحتقان والتجاذب، أسهم في ركوب موجة أحداث الربيع العربي، وزيادة الاضطرابات والانقسام الحاد بين النخب الإسلامية وقياداتها الدينية، في إعادة طرح مشروعها الفئوي نحو السلطة السياسية، وأيضا طرح مشروعهم الحداثي لمفهوم الدولة المدنية، القائمة على المشاركة والتعددية والحرية.

وأخيرا، وصلت المجتمعات العربية إلى حالة من اليأس، وشيءٍ من الوعي بأن كلا الطرفين: رجال الدين «عبر مشروعهم الإسلامي الأصولي»، أو المثقفين «عبر أطروحتهم الحداثية واستيرادهم الأنظمة والمناهج الغربية»، يبحثان عن دور في السلطة والإدارة أكثر من العدالة والتنمية.

حينها، استشعر رجل الدين أن اختراق الساحة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، يتطلب تجديدا في نوع الخطاب، وطرح الرؤية وتغيير الأسلوب، وإعادة جاذبية الشخصية المقدسة بعد انخفاض تأثيرها، وميل المجتمع إلى الحياد في التبعية الدينية والثقافية، ونمو مناهج التحليل والتفكير والبحث والاستقصاء لدى شريحة المتعلمين من المجتمع، وتنامي حرية الاستقلال والاختيار لديهم، كان الالتفاف التكتيكي من رجل الدين على التكيف والتسامح والتنازل، بدلا من التشدد في فهم النصوص الدينية وتطبيقها، واستيعاب أدوات الفنون والثقافة والحوار الشكلية، وانفتاح المثقف على العام، على بعض التشريعات والشخصيات الإسلامية، والاستشهاد ببعض نصوص الكتاب والسنة والتلون بها.

أصبح كل منهما يتنافس مع الآخر لإعادة هيكلة حركته ومشروعه، بعنوان المصطلح الجديد «المثقف الديني» الذي يسعى إلى إعادة القبول الاجتماعي، وكسب مزيد من الرضا السياسي. فهل ما زال المجتمع يثق في إعادة الهيكلة ومشروعها، ومن يقف وراءها؟.