يعرف التعليم بأنه مجموعة من الممارسات يقوم بها الفرد لكي يكتسب بعدها مهارة أو معرفة أو خبرة، بمعنى أنه أي فعل له تأثير على تكوين عقل وشخصية الفرد.

وقد كفلت دولتنا المجيدة هذا الحق لكل مواطنيها والمقيمين بنظام مجاني دون رسوم على كافة مراحل التعليم، كما أولته اهتماما ورعاية عاليين تجليا في الدعم بمختلف أشكاله وأنواعه، وأبرزها الدعم المالي الذي يتلقاه، ويتضح ذلك من خلال البيانات التي تشير إلى أن إنفاق الدولة من الميزانية على بند التعليم فقط بلغ نحو 205 مليارات ريال في عام 2018 ارتفاعا من نحو 200.3 مليار ريال في عام 2017، فيما تم رصد نحو 193 مليارا للإنفاق على التعليم خلال عام 2019، وهو ما يمثل نحو 17.5% من إجمالي إنفاق الميزانية السعودية في العام نفسه.

ومع هذا الدعم والاهتمام تحمل وزارة التعليم على عاتقها مسؤولية العمل وبذل كل ما تراه لازما لتطوير التعليم والتقدم به وتحقيق أهدافها وأهداف التحول الوطني. وفي غمرة تلك الجهود ترتفع الأصوات من هنا وهناك باقتراحات ومطالبات، وآراء بعضها تخدم العملية التعليمية، والبعض الآخر أبعد ما يكون عن ذلك. أحدها ذلك الذي جاء من باب سد الفجوة بين مخرجات تعليمنا العالي وسوق العمل، وطالب فيه البعض بإغلاق التخصصات الأكاديمية الإنسانية «النظرية» التاريخ، الجغرافيا... إلخ.

وعلى الرغم من أن الوزارة قد نفت ذلك إلا أن كثيرين روجوا لخبر تطبيق الوزارة هذا المقترح، وأنها تعمل على إغلاق هذه التخصصات.

لهذه الجماعة أود أن أوضح حقيقة أن الجامعات هي صروح العلم ومنارات المعرفة ومراكز الإشعاع الحضاري، وفي مجتمع معظم مواطنيه من الشباب الناهض بالبلاد، وعندما تغلق هذه الجامعات تخصصا أو عدة تخصصات فهي كمن يقوم بإطفاء شعلة نور المعرفة، والجامعات كانت وما زالت وستبقى لصنع المعرفة وبتجرد دون النظر إلى أي اعتبار آخر.

صحيح أن الموضوع يحتاج إلى إعادة نظر في هيكلية القبول والتسجيل وبعض الإجراءات النظامية، أما الإغلاق فليس حلّاً!. فعلى سبيل المثال تخصص التاريخ ونقيس عليه بقية التخصصات الإنسانية الأخرى. لعلم التاريخ أهمية معرفية ليست على مستوى التعليم وإنهاء البكالوريوس والحصول على أي وظيفة فيما بعد فقط، إذ يندرج تحت هذا التخصص عدة فروع، التاريخ السياسي والتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي، ونحتاج إلى مؤرخ يعكف على الوثائق والمخطوطات يدرسها يحللها وينتج البحوث والدراسات التي من شأنها خدمة الجهة التي يعمل بها، والتي ليست بالضرورة وظيفة تعليمية في التعليم العام، وإنما في مراكز البحوث والدراسات ومعاهد التدريب ومجالات أخرى واسعة.

والحديث عن أهمية هذا العلم لن تفيه مقالات ولا كتب، ولكن هذه الأهمية حتى يبرز مفعولها تحتاج إلى طالب متميز وشغوف بهذا العلم، يمتلك صفات الباحث والمؤرخ وليس مجموعة طالبات ليس لديهن أي نية في مواصلة دراستهن، ولا يملكن شغفا تجاه هذا التخصص، إنما اتجهن للتخصص به لتدني علاماتهن، ولأنه لم يكن أمامهن سواه للحصول على الشهادة الجامعية، إذ تصل أعداد القبول فيه إلى ما يقارب 300 طالبة، وبالتالي بعد التخرج يصبحن محسوبات في عداد العاطلين من هذا التخصص.

متى كان القبول في هذا التخصص للمتميزين والشغوفين بهذا العلم فقط وعدد محدود ليس بالمئات، أصبحوا بعد ذلك مفيدين لوطنهم ومستفيدين في بقية مشوار حياتهم العلمية. ومع تقليص أعداد القبول في هذه التخصصات النظرية، يكون هناك توسع في تخصصات سوق العمل والتخصصات المهنية والتقنية، ويكون القبول فيها غير مشروط بشروط تصعب على الطالبات الالتحاق الجامعي، وبذلك نتدارك هذه المعضلة الأكاديمية دون إقصاء أحد العلوم والمعارف المهمة، وهذا ما يستدعي مشاركة التعليم العالي في رؤية التحول الوطني الطموحة من خلال الجامعات، وذلك باختيار الطلاب في تخصصاتهم المناسبة بمزيد من العناية والاهتمام حتى يمكن الاستفادة منهم لتحقيق رؤية المملكة 2030، وخدمة التحول الاقتصادي من أجل مستقبل أفضل للوطن.