عندما يتم جمع البيانات الإحصائية عن مختلف مواردنا ومقدراتنا المادية والبشرية، فذلك يمثل القاعدة التي تنطلق منها الدراسات الصحيحة والخطط التنموية المناسبة والسياسات الأفضل لقطاعاتنا المختلفة، في ضوء ما تكشفه لنا البيانات عن حالة الظاهرات المختلفة من مواردنا، والمستهدف النهوض بها واحتوائها ضمن إجراءات وآليات تناسب وجودها كمّاً ونوعاً، وبما يتفق مع مواردنا الاقتصادية المتاحة وما يخدم تحقيق تطلعاتنا التنموية الحاسمة ورؤيتنا المنشودة، لإحداث تغيير ملموس في مواجهة تحدياتنا المختلفة.

تمثل البيانات الإحصائية لخصائص السكان الديموجرافية والاجتماعية والاقتصادية وما يتعلق بتركيبهم وتوزيعهم وتمكينهم، مؤشرات سكانية مهمة، تُبنى على أساسها الرؤى والخطط، لتوجيه عملية التنمية في مساراتها الصحيحة المطلوبة، بما يتفق وتلك المؤشرات ليتم استثمارها واحتواؤها كما ينبغي، وبما يخدم وجودها وتنميتها بما ينعكس مردوده الإيجابي على الوطن والمواطنين.

يمثل كلٌّ من السكان والتنمية طرَفَي معادلة متوازيين، إذ لا يمكننا إحداث تطوير أو تغيير في عملية التنمية ومنجزاتها المأمولة دون أن تؤخذ الخصائص السكانية بتفاصيلها في الاعتبار، كمؤشرات وكخطوط رئيسية لخارطة الطريق التي نرسم بها مضمون مشروعنا التنموي بتفاصيله الدقيقة ومساراته المختلفة، وبما يحتويه من خطط طويلة المدى أو متوسطة وقصيرة، تنفذ خلالها البرامج والمشروعات التي تستهدف التنمية الشاملة بتفاصيلها، والتي يمثل الإنسان أساسها المحرك وهدفها المنشود ونتيجتها المستثمرة.

تشير البيانات الإحصائية لخصائص السكان الديموجرافية لعام 2017، والتي تمثل أحدث الإحصائيات المتاحة عن المسح الديموجرافي للسكان في السعودية، بأن هناك ارتفاعا في نسبة السكان من الفئة العمرية المكونة لقوة العمل من (15-64 سنة)، مقارنة بالفئات العمرية الأخرى، وذلك يعرف في الدراسات السكانية بمصطلح الفرصة الديموجرافية أو النافذة الديموجرافية، أو الهبة الديموجرافية، ويعني أن هناك فرصة ذهبية للدولة لتحقيق نقلة تنموية كبيرة لصالح التنمية الوطنية الشاملة، نتيجة لتوفر كم كبير من الأيدي العاملة التي تتحمل مسؤولية الأعمال والإنجاز في القطاعات المختلفة، وعليه فإن السياسات التنموية ذات الصلة بالسكان (السياسات السكانية) لا بد أن توجه نحو بناء واستثمار تلك الطاقات المتاحة في التنمية والنماء، لتؤتي تلك الهبة الديموجرافية أُكلها، وينعكس مردودها إيجابا على تحقيق قفزة تنموية وطنية شاملة.

الاهتمام بالتعليم والتدريب للمواطنين، أحد أهم أسس أولويات التمكين للموارد البشرية، ويرتبط بذلك توفير فرص عمل لتلك المخرجات، للمشاركة في تحقيق التنمية الشاملة بأياد وطنية، وللتمكين الاجتماعي والاقتصادي لتلك الفئة التي تتحمل إعالة الفئات الأخرى من السكان (ما دون 15، وفوق 65 سنة)، والذي ينعكس أثره على استقرار اجتماعي ونمو اقتصادي، وأمن وطني يشمل شرائح المجتمع وطبقاته كافة.

من جهة أخرى، فإن عدم وجود سياسات سكانية تتواءم مع تلك المرحلة الديموجرافية الشابة، يعني إخفاقا وفشلا في اقتناص استثمار تلك الفرصة، ويحول دون تحقيق مستهدفات التنمية المأمولة، والذي يفرز لنا بالمقابل مجموعة من التحديات التنموية والاجتماعية ذات الصلة، مثل تفشي البطالة بين من هم في أوج نشاط قوة العمل، وانتشار المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالفراغ وعدم وجود دخل ثابت، لعدم وجود فرص عمل كافية ومناسبة، فيتأخر زواج الشباب، وترتفع نسبة العنوسة، ويزداد الطلاق، ناهيك عن انتشار المشكلات الاجتماعية المدمرة، كالجرائم على اختلافها، وانتشار المخدرات إدمانا وترويجا، وغيرها من السلوكيات المنحرفة، والذي سيضطرنا إلى بذل مزيد من الجهود والأموال، لاحتواء تلك الأزمات ومحاولة الحد منها، بدلا من جني ثمار وجود طاقاتها الشابة، والاستفادة من مردودها الإيجابي، نتيجة لذلك الإخفاق في استثمار تلك الطفرة الديموجرافية.

ما يجدر التنويه إليه أن البيانات الإحصائية 2017 تشير إلى إن ذلك الارتفاع العام في نسبة السكان في سن قوة العمل تصل نسبته إلى 72.1 % من جملة السكان (سعودي/‏ غير سعودي)، وترتفع تلك النسبة بين غير السعوديين إلى 83.2 % من جملة غير السعوديين، بينما يسجل السعوديون نسبة 65.5 % من جملة السكان السعوديين، وذلك يقتضي الحذر والحيطة والوعي، بأن توجه سياسات نظام العمل وتشريعاته نحو حفظ حق المواطن وتسهيل تمكينه، من خلال الاهتمام بالتوازن والتناغم مع ذلك التحول الديموجرافي، بالدفع نحو تيسير التوظيف والتدريب للمواطن المؤهل علميا، والحد من استقدام العمالة الوافدة التي تزاحم المواطنين في سوق العمل الوطني، وتستحوذ على الفرص المتاحة، والذي كان نتيجة لإخفاق سياسات العمل ونظامه، في استيعاب ذلك التدفق للشباب المؤهل من المواطنين في سوق العمل، مع غياب نظام عمل يحمي المواطن ويضبط أداء القطاع الخاص ليتحمل مسؤولياته كشريك في التنمية.

لا ننكر أن هناك قصورا في التعليم والتدريب لبعض مخرجاتنا التعليمية، وذلك جزء من الإخفاق في الأخذ بالسياسات السكانية المناسبة الخاصة بالتعليم والتدريب منذ سنوات، إلا أن إصلاح الخلل في السياسات السكانية المرتبطة بتنظيم سوق العمل وتوجيهه وضبطه، مطلوب وبقوة، للتعاون في امتصاص ما نواجهه من تحديات مختلفة، والتي منها إخفاقات السياسات التعليمية وسد ثغراتها السلبية، ويكون بتيسير التدريب والتوظيف في القطاعات المختلفة.

نحتاج لوثيقة سكانية تتبنى توثيق أولويات حاجاتنا التنموية، لترتيب برامجنا وسياساتنا بما يتفق مع مؤشرات الخصائص السكانية الوطنية، كما نتطلع لمنهج تربوي يستهدف تنفيذ تربية سكانية، بما دعت إليها اليونيسكو في 1987، يستهدف التأثير في عامة الناس ومساعدتهم على تفهم وإدراك طبيعة الأحداث السكانية ومسبباتها ونتائجها، بما يسهم في التأثير كذلك على القرارات والسلوك في القضايا المرتبطة بالسكان وتوجيهها، وذلك يشمل الأفراد والجماعات وصناع القرار وقادة المجتمع وأرباب الأسر.