مرت المجتمعات البشرية منذ نشأتها بعدة تحولات كان أولها المجتمع الزراعي البسيط في تركيبته، وكان جُلّ اهتمامه توفير مأكله ومسكنه وغياب التكتل الاجتماعي والتنظيمي، وبعد استقراره على ضفاف الأنهار بدأت الحاجة إلى تذليل الصعاب في البيئة والتعاون بينها والتسارع في زيادة المهارات وتوظيف عناصر البيئة في خدمة احتياجاتها.

ثم اتسع نطاق تشكيل الحديد والنسيج واستخدام النار، وكان ذلك تمهيدا للانتقال إلى المجتمع الصناعي، حيث زيادة السكان ومحدودية المصادر الطبيعية، وتعقد أنماط الحياة، وبروز رغبات وتطلعات جديدة، وظهور عدد من مصادر الطاقة واللجوء إلى التصنيع، وانتشار الآلات في جميع المجالات ونمو الاقتصاد والتبادل التجاري، حتى مرحلة اندلاع الحرب العالمية الثانية، فكانت منعطفا كبيرا في تأريخ المجتمعات البشرية في التحول بعدها إلى المجتمع المعرفي، والذي تمثل في الثورة العلمية والتكنولوجية والمعرفية، التي أدت إلى ظهور الصراعات والاختلافات والتشريعات والمعاهدات، واستقلال عدد من الدول وتحررها من الاستعمار ونشأة الأمم المتحدة، والاتجاه نحو التحول الكبير لمرحلة مجتمع الحريات والتعبير عن الرأي، والمشاركة الفاعلة في صناعة القرارات الوطنية عبر جميع الوسائل، من صناديق الاقتراع إلى قوة الشارع في التأثير.

مهد لهذه المرحلة الأخيرة في منتصف القرن الماضي تطور مجموعة من الوسائل التي أنتجتها المجتمعات البشرية المتحضرة، من التعبير عن الرأي في الصحافة والمؤلفات ووسائل الإعلام وبرامجها المتنوعة والسينما والمسرح والفنون المختلفة، والمشاركات في المجالس البرلمانية والحقوقية والنقابات العُمَالية والمهنية والمؤتمرات العالمية، وفي القوانين المنظمة لحق التظاهر السلمي والإضرابات، وفي مجموعة أنشطة مؤسسات الأمم المتحدة عبر العالم، والتوقيع على المعاهدات والمواثيق الدولية وبنود حقوق الإنسان.

المجتمعات العربية كجزء من تلك المجتمعات البشرية في العالم، لديها عدد من المشكلات والأزمات والتوترات والتطلعات التي ترغب في تحسينها إلى الأفضل من خلال الانفتاح على حركة التواصل بين شعوب العالم، وما تُشاهده من حراك بين الطبقات السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية في تلك الدول، من أجل الوصول إلى حالة الرضا حول الخدمات المتنوعة في حياة مجتمعاتها، وأن التعبير عن الرأي بمختلف الأساليب والأنواع، أدى إلى استقرار تلك المجتمعات المتحضرة وأصبحت أنموذجا تتمنى المجتمعات العربية محاكاته وتقليده، للوصول إلى الرفاهية والحقوق وتوفير الخدمات في جميع المجالات.

واللافت للنظر أن المجتمعات العربية نظرت إلى شكل واحد من أشكال التعبير عن الرأي في العالم المتحضر، وهو حق التظاهر والاحتجاج في الشارع وفق القوانين والتشريعات المنظمة له، وغفلت عن كثير من الوسائل التي تُمارسها تلك المجتمعات للوصول إلى النتائج التي ترغب إليها عبر مختلف أدواتها، وأرادت تقليدها في الوسيلة دون المضمون، في تغيير أنظمة الحكم والطبقات السياسية أو التعبير عن غضبها من بعض التشريعات، أو تدني الخدمات وفرص العمل والعيش الكريم.

وتجاهلت المجتمعات العربية أن التظاهر والاحتجاج وسيلة يجب أن تتسم بالثقافة والوعي والإدراك، والانتباه إلى ثلاثية الحقوق والواجبات والأهداف الوطنية التي على الفرد أن يتصف بها وتكون أثرا واضحا في سلوكه وحركته، ويلجأ إليها كخيار من متعدد، بعد مجموعة من الممارسات التي بذل فيها جهدا كبيرا حتى وصل إلى طريق مسدود لا ينفع معها إلا التظاهر السلمي المتوافق مع الأنظمة والقوانين، والتي تُحركها قيادة واعية ومنضبطة تعرف أهدافها ولديها القدرة على إدارة جماهيرها وشعاراتها ومطالبها نحو غايتها المطلبية وحقوقها الوطنية.

وحتى يصل المجتمع العربي إلى ثقافة حق التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي حول معاناته أو تطلعاته بأفضل ما يُريد، فلا بد أن يُتقن أولا مهارات التفكير الناقد في رؤيته لكل ما حوله، وأن يكون قادرا على احترام الرأي والرأي الآخر، وأن يكون سليما من فيروسات وأمراض الفساد والمصالح الخاصة والتهاون في حقوق الآخرين، وأن يُوظف ويستثمر جميع إمكانياته العقلية والعملية والمادية في خدمة مجتمعه ووطنه ونفسه، وأن يراعي الله في تصرفاته وسلوكه وأن يكون رقيبا على نفسه قبل غيره، حينها يستطيع المجتمع العربي النزول إلى الشارع والاحتكام إلى قوة تأثيره في الوصول إلى التغيير المطلوب، ويكون التظاهر علامة فارقة في تحسين الحاضر وتطوير المستقبل، ودون ما سبق يتحول التظاهر إلى ضجيج، وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.