الحديث عن الأمكنة العتيقة بشكل عام، هو حديث ذو شجون، سيما إذا ارتبط باستذكار حارات مدينة لها قيمتها الدينية ومكانتها الإسلامية كمكة المكرمة، أشير إلى تلك الحارات التي اندثرت وبادت فور أن هجرها الناس مرغمين تحت عجلة التمدن وحتمية التطوير على وجه التحديد، نعم الحديث عنها ذو شجون لارتباطها برحيق الأجداد، وجماليات الماضي وذو وجم فلأن كمية الآلام والأوجاع مدعاة فراق تلك الأمكنة، ما تزال تعتصر قلوب أهلها إلى يومنا هذا، حين يتعلق الأمر بالعادات والقيم الإنسانية، وبالعطاءات المتدفقة، والإيثار، وبالمفاهيم والمثل العليا التي كانت تمشي على الأرض في ذلك الحين، فنحن أمام سمات وتعاملات أخلاقية نادرة، أو كادت تكون كذلك، وبطبيعة الحال فإنا سوف نراعي ظروف تلك الآلام ونتفهم أسباب تلك الأوجاع. والمتأمل بشكل أكبر وأوسع فإنه قلما يجد شخصية عنيت بتراث الأجداد أو بأحداث الماضي، ولم تتغن بذكرى الأحياء القديمة أو تتوجع على بقايا الأطلال، وأعني أولئك الذين عاصروا لحظات الزمن الجميل، بكل تفاصيله رغم الصعوبات التي اعترت ذلك الزمن ورغم المعاناة فيه. وإذا ما استحضرنا تلك المرحلة بحذافيرها، فلا يمكن أن تتجاهل أيام الطفولة بكل فصولها وأبعادها البريئة. ثمة ناس لم يألفوا بعد العيش في المخططات الهادئة، ولم تسعفهم أعمارهم في مواكبة الحياة الرتيبة، وفراق الظروف التي اعتادوا عليها، رغم الفارق الكبير في الخدمات والإمكانات والتسهيلات وأشكال الإغراء التي توفرها المخططات الحديثة التي فرضت نفسها. ما زال الحنين يدفع بهم نحو هاتيك الأزقة الضيقة، والرواشين الخشبية، والمراكيز الليلية التي تزخر بأحاديث السمر، وتستهويهم الملتقيات اليومية، والتكدس السكاني، والعلاقات القديمة التي يندر أن تكرر في المخططات الجاهزة أو الوحدات السكنية الأنيقة، والحقيقة التي لا يعرفها الكثير من أفراد جيل اليوم، أن هذه الشريحة العريضة من المجتمع، افتقدت الكثير من معاني الألفة والكثير جدا من الحميمية، كسبب وجيه لانعكاسات التغير وتداعيات التحول، لسان حالهم يقول وداعا لتلك الأيام الجميلة والشعور الأخوي المتبادل الذي رحل دون رجعة. لقد انتهت تلك الحياة ببساطتها المعهودة وطيبة أهلها. وحتى ينتظم الكلام هنا ويحسن به الوصف، وكي تكون العبارة أكثر دقة في إيصال المعنى على الوجه الصحيح، فإنه ينبغي القول عن تلك المنطقة، الجغرافيا الصغيرة التي تداخلت فيها البنيان والتصقت معها الجدران جنبا إلى جنب، تماما كالتصاق المشاعر التي يكنها أصحابها، من المناسب أن نطلق عليها مسمى (الحارة الفاضلة). لقد أصبحت مدينة مكة المكرمة بين عشية وضحاها، ورشة عمل كبرى فور أن شهدت حاراتها الكثير من المشاريع التطويرية التي على إثرها أزيلت منها بعض الحارات المعروفة عن بكرة أبيها، ما أدى إلى ظهور مخاوف تتعلق بهوية تلك الحارات التي سوف تمحى، وتتلاشى من الذاكرة لا محالة مع تعاقب السنين وتتابع الأيام. بالمناسبة وفي هذا السياق أذكر مؤلفا نفيسا أحسبه كذلك، تتعلق مادته المعروضة بما أنا بصدد الحديث عنه، وما استشهادي به هنا إلا لشموليته بمواضع عديدة عن مكة، فقد صنفه المؤلف بأسلوب عجيب وطريقة مشوقة للقارئ، وأعده شخصيا مرجعا للطلاب وأصحاب الدراسات العلمية والباحثين عن الآثار المكية، فكتاب (صدى الأيام.. ماذا في حارات مكة) للباحث المكي عبدالله أبكر سلط الضوء على تفاصيل كثيرة ودقيقة، متعلقة بملامح وتراث حارات مكة والأجواء المحيطة بها وسباب تسميتها، وأجدها رسالة موجهة للذين انتابتهم المخاوف والشكوك حول فقدان هوية تلك الحارات، فهناك جهود شخصية تبذل من قبل أبناء مكة في سبيل الحفاظ على تلك الأمكنة والحارات عبر توثيقها وتدوينها بين دفتي الكتب.. للتاريخ.