أصدر الروائي حمور زيادة، قبل عامين، مجموعة قصصية باسم «النوم عند قدمي الجبل»، حَوَت قصصا قصيرة، سمّى الثانية منها «حِلة ود أزرق»، اختار لأحداثها قرية حجر نارتي -شمال السودان- والتي مثّلت مسرح رائعته «الغرق» فيما بعد.

ترصد حركة نزوح مجموعة سكانية في الصحراء شمال السودان، قوامها أعراب رُحّل أضرت بهم موجات الجفاف المتتالية التي بدأت في ستينات القرن الماضي، وتسببت في حركة سكانية واسعة منجذبة نحو أماكن توافر المياه، حاملةً معها حمولتها الثقافية وموروثاتها ومعتقداتها الاجتماعية، إلى جانب أنماط حياتها وسبل كسب عيشها، التي كانت تتبعها في قراها الأصلية، وتدب الحياة عادة في هذه الحمولة فور استقرار حامليها النازحين.

الأعراب الذين نزحوا إلى حجر نارتي، كما روى عنهم «زيادة»، توافدوا إليها في مجموعات متفاوتة التعداد والزمان، حتى اكتمل عقدهم واستقروا في القرية، وسط مواقف تباينت بين الرفض والقبول، أو الاعتراف المكره بهم من جانب القرية، فالتوافق الاجتماعي بين النازحين والسكان الأصليين، يعتمد على تقبل الآخر أولا، هذا التقبل نفسه مرهون بأجندة النازحين «الدخلاء» ونمط الحياة الذي ينتوون انتهاجه، فإن التزموا بالبقاء على هامش حياة القرية، أو ذابوا في مجتمعها كما هو، دون أن يحاولوا فرض أنماط حياتهم الخاصة أو ثقافتهم، يظل وجودهم مقبولا حد الترحيب.

أما إذا ما حاولوا إقحام سبل عيشهم التقليدية وأعرافهم الخاصة على مجتمعهم الجديد، فإنهم حينئذ ينزلقون إلى فخ الصراع الكلاسيكي مع أهل القرية المسيطرين على مواردها وحماة تقاليدها وثقافتها، كما سيرد في تداخل وتشابك دراما العمل.

ارتبط استيطان أسرة «وَد أزرق» ونزوح عشيرتها الصحراوية في حجر نارتي بالفصول والمواسم والفرص العارضة، كما يحلو لـ«حمور زيادة» في كتاباته أن يربط أحداث رواياته بالمواسم والفصول.

برزت المواسم في هذا العمل محركة لأحداثها في انسياب متناغم مثل موسمي الفيضان والجفاف وموسم جمع التمر، إلى جانب حدث قومي وحيد هو الانتخابات التي أجريت في حجر نارتي، كما سنرى لاحقا.

فاض النيل على حجر نارتي، وأتلف الزرع وأضر بالأرض، فهبّت أسرة وأقرباء «أحمد ود أزرق» الذي طرده الموج من مستقره البدائي خلف البيوت لمساعدة القرويين، فأجلوا البهائم والسواقي قبل أن يأتي عليها الفيضان، كما يحدث في أي نظام اجتماعي متماسك ومتعاون.

مرت سبع عشرة سنة منذ أن جاء «أحمد ود أزرق» مع زوجته العجفاء وطفليه الجائعين، يتسول لقمة على أبواب حجر نارتي، وينام تحت السماء في عرائها، ثم تسلل أبناء عمومته وأقاربه في مراحل وظروف مختلفة، وآل الأمر إلى صالحهم بمساعدة تقلبات الطقس، ومواسم ازدهار العمل، وفوضى الانتخابات، فبنوا مساكن واغتنوا «أراض ومزارع وأعمال تجارية»، وكوّنوا موقعهم الخاص وسمّوه «حِلة ود أزرق»، فتغيرت القرية من ثلاثية الأحياء إلى رباعيتها، وحصلوا على حقوق مواطنة، أسوة بأهل حجر نارتي الأصليين المجبولين على رفض الغرباء داخل حدودهم المحمية بالعرف الاجتماعي، حتى أجبر تشابك المعاملات الاجتماعية والمالية، القرويين على زيارات متكررة لمناطق الأعراب، مما اضطرهم إلى الاعتراف الضمني بوجودهم وتأثيرهم، بل والتوسّل إليهم ليشاركوا القرية ماديّا في مشروعها لإمداد المياه داخل الأحياء، الأمر الذي مكّن صبية الأعراب من دخول المدارس بدلا من نقل الماء إلى حِلة ود أزرق.

لم يرتق التمازج الاجتماعي بين القرويين والأعراب إلى حد المصاهرة حتى الآن، ولكن الأمر مرهون بالزمن لا غير. سيتصاهر الطرفان بالتراضي، وستدفع حجر نارتي ثمن استكانتها.