يُروى في سيرته -عليه أفضل الصلاة والسلام- أن أبا بكر -رضي الله عنه- لقي راهبا، فقال له: صِفْ لي محمدا كأني أنظر إليه، فإني رأيت صفته في التوراة والإنجيل، فقال رضي الله عنه: لم يكن حبيبي بالطويل البائن ولا بالقصير، فوق الرِّبْعَة، أبيض اللون مشرب بالحمرة، جعد ليس بالقطط، جمته إلى شحمة أذنه، صلت الجبين، واضح الخد، أدعج العينين، أقنى الأنف، مفلج الثنايا، وكأن عنقه إبريق فضة، وجهه كدارة القمر، فأسلم الراهب. ومما ذكر في صفاته عليه أفضل الصلاة والسلام، أنه إذا مشى تَقلّع كأنما يمشي في صَبَبْ، وإذا التفت التفت معا، وبين كتفيه خاتم النبوة، هو أجود الناس كفًّا، وأرحب الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفى الناس ذمةً، وألينهم عريكةً وأكرمهم عِشْرَة، مَنْ رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، ويقول ناعتُه: لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. ويكفينا شهادة رب العالمين فيه، في قوله تعالى (وإنك لعلى خُلق عظيم)، وقوله عليه الصلاة والسلام عن نفسه «أدبني ربي فأحسن تأديبي»، وقالت عنه أم المؤمنين عائشة حين سُئلت عن خُلقه: (كان خُلقه القرآن)، اختاره الله واصطفاه ليكون صاحب الرسالة الخاتمة للعالمين، وأتم به النعمة، فقال تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة الآية: 128.

كتب السيرة النبوية ومصادرها زاخرة بسيرته العطرة، التي وثّقها القرآن في كثير من مواضعه وآياته وتفسيراته، ولذلك فإننا لن نناقش أمرا جليا في حقيقته، واضحا في محتواه، مضيئا في جميع تفاصيله، وإنما نناقش فكرة الاحتفال بمولده عليه أفضل الصلاة والسلام، والتي يتنازع مسألتها فئات من المجتمع، ما بين مؤيد ومُحب، وما بين رافض وكاره لفكرة الاحتفال، إذ تتمسك الفئة المؤيدة له بقناعات عَقدية رسخت، نتيجة لأفكار بُنيت جذورها امتدادا لأصول قومية بعيدة، وكجزء من تربية دينية، وثقافة ومعتقد تاريخي، توارثته الأجيال وترسخ في نفوسهم، حبّاً في سيد المرسلين بعيدا عن التطرف، فلم يُفلح التشدد الديني في زعزعة ذلك الاعتقاد أو إضعافه عند البعض، باعتبار أنه عبادة مستحدثة، أو بدعة وأنه لم يكن في زمن الرسول، عليه الصلاة والسلام، وأنه علينا أن نبتعد عن كل أمر لم يرد عنه عليه الصلاة والسلام، أنه فعله أو تحدث به، وذلك السبب الأساس لرفض الفئة الأخرى، علاوة على القول بأنه هناك من المخالفات الشرعية والمعتقدات التي تحدث بما يخالف الدين الإسلامي.

ولأن الموضوع شائك في تفاصيله ومتداول مجتمعيا وإعلاميا، فإنه يجدر بنا أن نناقشه بشفافية فكرية وبساطة منطقية، بعيدا عن التشدد والغلو والانغلاق، ولنأخذ ما يجري حولنا من أحداث مثالا لما نطرحه، نجد العالم ما بين اليوم والآخر يحتفل بمناسبات مختلفة وفعاليات ترعاها منظمات دولية وأممية ومجتمعية، بهدف تحفيز الاهتمام بها، ولتوجيه العقول والنفوس إليها، لتعزيز قيم معينة، أو تعظيم لسلوك مستهدف تنميته، أو تقدير لفئات معينة من المجتمع، بغرض الدفع نحو تبني مزيد من السياسات والقناعات الداعمة لهم، وذلك يصب جميعه في صالح المجتمع البشري، للارتقاء به ولتنميته في شتى بقاع الأرض.

من هذا المنطلق يمكننا مراجعة اجتهاداتنا الفقهية، لتكون متفاهمة ومتصالحة مع مجريات العصر فيما لا يُخِل بالثوابت، والتي منها تجديد رؤيتنا وتقييمنا للمغزى المجتمعي المستهدف من الاحتفال بالمولد النبوي لسيد الخلق، والذي لا يختلف الجميع على عظيم فضله، وثقل وزنه، وجليل قدره، وبما يستحق به أن يُكّرم وتستذكر سيرته العطرة وصفاته وخلقه وجميع مناقبه الشريفة، بأوجه مواكبة للتغيير، بعيدا عن النمط التقليدي للمحاضرات والمواعظ، للتأسي به ولتجديد العهد بفضائله وسيرته التي ميزته عن الخلق أجمعين.

أما لماذا تخصيص يوم أو أيام معينة من العام للاحتفاء به وبسيرته الشريفة، فلأن ذلك يتماشى مع الطبيعة البشرية والمجتمعية في تخصيص الاهتمام لحدث ما، بأيام معينة لتحفيز الالتزام به، ولتأكيد أهميته، وليكون مناسبة يَسعد بها أفراد المجتمع، ويعيشون تفاصيلها الروحية وقيمتها المعنوية والتشاركية بفعاليات مختلفة.

ولأن الإنسان اجتماعي فهو يميل بطبعه إلى محاكاة أفراد جنسه في كثير من السلوكيات والقيم السائدة، التي بناها أفراده وتوارثوها، وهو ينزع إلى التقليد وحب المشاركة العامة، خاصة في المناسبات التي تحمل في معانيها الفرح والسرور أو القيم الروحية والإنسانية التي تُعزز جانبا عاطفيا ووجدانيا لديه أو تملأ فراغه، سواء لشأن ديني أو وطني أو أسري أو حتى عالمي، خاصة بعد أن أصبح العالم اليوم كأنه مجتمع واحد، أو بالأحرى قرية عالمية، يتواصل أفرادها وتجتمع شعوبها، ليعيشوا الفعاليات المختلفة ما بين شرق الأرض وغربها، بلحظاتها الفعلية، وليس الافتراضية في ظل التقدم التكنولوجي والتقني الذي نعيشه.

وفي ظل ما يجري في العالم من احتفالات مختلفة لمناسبات ترتبط بمعتقداتهم وقيمهم الدينية والمجتمعية، حتى أصبحت عالمية التأثير، وعلى الرغم من أنها تخالف ديننا وقيمنا في مفهومها، إلا أننا نجد أنفسنا لا نملك القدرة على السيطرة عليها، لقوة انتشارها كفيضان بين أجيالنا، بل وفُرضت علينا عنوة رغم مقاومتنا لها سواء شئنا أم أبينا، لأن هذا من أحد أوجه ضريبة وفواتير التقنية التي نعيشها، والتي لا نملك سدا منيعا حيالها، إلا بالتوعية والتربية والتوجيه من جهة، وبتوفير البدائل القيّمة الخاصة بنا وبمجتمعنا وديننا من جانب آخر، لنملأ به ذلك الفراغ النفسي والعاطفي والعقلي، الذي يملأ النفس الإنسانية والفكر المعاصر بطبيعته المتسارعة.

فلنغتنم الفرص ولنقتنص المناسبات الدينية والمجتمعية والوطنية، التي يمكننا خلالها تعزيز صفات حميدة وقيم عالية من التسامح والحب والوفاء والأمانة والصدق والإخلاص والشجاعة والصبر والحزم والرأفة والعدل والانتماء، وغير ذلك من الصفات التي نتمنى أن يتخلّق بها أبناؤنا، لتكون خُلقا يتحلون به، وصفات يلتزمون بها، وسلوكا ينتهجون منهجه، وعليه أليس الاحتفال بمولد سيد الخلق -عليه الصلاة والسلام- مناسبة دينية تستحق الاحتفاء بها مجتمعيا؟ لاستشعار سيرته العطرة للاقتداء به، وللتذكير بوقتها الزمني المفترض -وإن اختلف البعض في موثوقية تاريخه- ولنعايش حدث ولادته الشريفة الذي امتلأ الكون نورا بمقدمه.