حديثي اليوم هو أن نفكر بصوت مسموع، وسأحاول أن أشارككم بأفكار قد يتقبّلها بعضنا، ويرفضها آخرون، وكل منهم له الحق في ذلك، فهذا منبر لعرض الأفكار، وليس منبرا لفرضها، وأفضل الأفكار هي التي تُناقَش وتحلّل، قد نصل معًا إلى صحتها، وقد نصل إلى عدم صحتها، ولكن يظل الحوار الموضوعي الذي يقدّم في إطار من الاحترام والمهنية، أفضلَ سبيل لحراك الفكر، وتقدُّم المجتمعات على جميع المستويات.

وفكرتي اليوم تبدأ بالسؤال التالي: هل نحن خُلِقنا كلوح فارغ في انتظار أن يُكتب عليه كل ما يمرّ علينا من معلومات وخبرات؟، أم خُلقنا بمخزون من المعلومات والقدرات بانتظار أن تُصقل بالخبرات؟. في الحياة، نجد أننا نقوم ببعض السلوكيات دون أي تدريب مسبق!، بمعنى أننا جئنا مجهزين، ولِمَ لَا؟ فالعقل البشري مجهّز بقدرات لا حدود لها، هل يُعقل أن كل هذه الإمكانات وُضعت في وعاء فارغ؟!

أم إن في جيناتنا تم تخزين كل المعلومات من الخالق، وما علينا في هذه الحياة إلا أن نعيد اكتشافها، أو أن نعيد التعرف إليها؟.

هل سبق أن شعرت عند سماعك أو قراءتك فكرة عميقة، أو تعرضك للحظات مما نسميه البصيرة، وكأنها مرت عليك من قبل؟، هل سبق أن شعرت أنك لا تتعلم، بل تعيد اكتشاف شيء ما كان في داخلك؟، أليس من المعقول أن يكون في الأصل بداخلك، مما هو متأصل فيها من الأساس؟.

يقول سُقراط: «إن كل شخص يولد بمعرفة كل شيء، ولكنه فقد الوصول إليه»، ونحن نعرف أن الله -سبحانه وتعالى- علّم آدم الأسماء كلها، كلمات أي مفاهيم، وهذا بدوره يعني أفكارا ومعلومات، ونحن من ذرية آدم. وعليه، من الطبيعي أن تكون قد غُرست في جيناتنا كل هذه المعلومات من كلمات وتشعباتها من أفكار ومفاهيم.

ومن هنا، نجد أن الطريقة المثلى للمعلم ليست نقشا على لوح فارغ، بل هي مساعدة التلميذ على إعادة اكتشاف وفهم ما يعرفه أصلا في داخله. كل ما عليه هو تحريك ذلك الفضول، وتفعيل تلك الإثارة، ثم لنترك التلميذ يستكشف ما ورثه جينيّا داخل أعماق ذاته.

بمعنى آخر، على المعلم القيام بمساعدة التلميذ على استخراج الإمكانات التي هي في حالة سكون تنتظر مَن يحرّكها، وحينها لتنظر لذة الدهشة في التعلم، وبعدها انطلاق هذا التلميذ في بناء معرفته، خلال ما هو متأصل في الداخل إلى ربطه بما هو في الخارج!.

بعضنا يؤمن بأنه نتاج تأثيرات الخارج، فيتصرف على هذا الأساس، يراقب كل ما يدور حوله ويصغي، ثم يقلّد لينتمي إلى المجموعة!، وهذا التقليد يكون على شكل اللباس والطعام وطريقة الحديث، حتى طرق التفكير والتحليل، أي يرون أنفسهم ليس أكثر من معجون يتم تشكيله من الخارج!.

لنفكر معا قليلا، عندما قال الله سبحانه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (الآية 4 سورة التّين)، هل معنى ذلك أنه من الخارج فقط؟ ألا يعني ذلك أنه من الداخل أيضا؟ بالطبع، فقد رأينا عظمة الخالق في خلق الجسد وتنظيمه من الداخل بفضل تقدّم العلم، والذات هي داخل الفرد وليست خارجه، إذًا لِمَ لا نعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- خلق هذه الذات في أحسن تقويم؟!

وبما أنه خلقها في أحسن تقويم، فهذا يعني أنها في الداخل بكل قدراتها ومعلوماتها في انتظار أن تخرج، وما علينا إلا أن نعمل على إزالة كل ما هو حولها لتسهيل خروجها، لنقرّب الصورة.

إن الفنان حين يعمل على منحوتة، يبدأ بضرب كل ما حولها من قشور، سواء كانت خشبية أو رخامية أو حجرية، لتظهر شيئا فشيئا عملا فنيا جميلا، حسب مهنية الفنان وإبداعه، وهكذا نحن نستخدم أدوات تسمى الخبرات، والتي تعمل على إزالة الشوائب لتظهر التحفة الربانية، ويصبح دورنا في هذه الحياة هو أن نكتشف ذواتنا من جديد، أن نبدأ رحلة في ذواتنا التي تم صنعها من الخالق، وفي انتظار أن يكتشفها المخلوق، رحلة ليست سهلة وليست واضحة، ولكنها تحتاج إلى شيء من الصبر وكثير من الشجاعة، لأن التعرف على ذاتك والنمو لا يعني بالضرورة أن تصبح عظيما، بل أن تصبح أنت «أحسن تقويم»، ولن يتم ذلك إلا عن طريق مواجهة الصعوبات والتحديات، وبالإرادة والإصرار نصل.

لنُعِد برمجةَ تفكيرنا على أننا تحفة فنية أبدعها الخالق سبحانه، وفي انتظار أن تخرج إلى النور. وهنا، هل سننظر إلى أنفسنا ونقارنها بالغير، أم نستشعر عظمة خلقها، ونمضي في صقلها وإخراجها؟.

من أجل التفكير والتدبر:

1ـ عُرض اللبن والخمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- فاختار اللبن، فقيل له: لقد اخترت الفطرة

2 ـ كل مولود يولد على الفطرة... إلخ

3 ـ «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» (الآية 30 سورة الرّوم)

فما الفطرة؟