يسعد المتخصصون حينما يتيسر لهم جو علمي رصين، يناقشون فيه المواضيع والمشكلات الحياتية المعاصرة، مثل العقود الذكية وكيفية تفعيلها والإقالة منها، والتضخم وتغيير قيمة العملة، وعقود الفيديك، والتسامح في الإسلام، وتحقيق الأمن الغذائي والمائي، والجينوم البشري والهندسة الحيوية المستقبلية؛ يريدون تقديم اجتهاد أصيل وفاعل، وفق تصور شامل، أساسه أن الفقه الإسلامي ثمرة تحكيم شرع الله تعالى، في الواقع الإنساني بكل أبعاده، وأن الشريعة الإسلامية قادرة على معالجة المشكلات الإنسانية المعاصرة، وتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

ما سبق ذكره أمنه مجمع الفقه الإسلامي الدولي، بالتنسيق والتعاون بينه وبين دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بإمارة دبي، حيث تم مؤخرا في رحابها العامر، عقد الدورة الرابعة والعشرين، بمشاركة (137) مدعوا من أعضاء المجمع المعينين والمنتدبين، والخبراء، والخبيرات، إضافة للمتخصصين من أساتذة الجامعات، والطلاب ذوي الاختصاص، جرت بينهم على مدى (3) أيام مناقشات مستفيضة، أدارها بكل اقتدار وحكمة العالم الجليل رئيس المجمع، الشيخ صالح بن حميد، ونتجت عنها توصيات وقرارات فقهية علمية رصينة..

من أهم ما كان ينتظره كثير من الناس صدور قرار في موضوع (التضخم وتغيير قيمة العملة)، الذي يمس حياتهم بصورة كبيرة؛ فكثيرا ما يقرض المرء لغيره مبلغًا من المال إلى أجل معين؛ دفعا لحاجته، وتفريجا لكربته، وكثيرًا ما يشتري التاجر بضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى أمد متفق عليه، وفي بعض البلدان الإسلامية كثيرا ما يكون أكثر مهر الزوجة دينًا مؤجلا في ذمة الزوج، لا يحل إلا بالموت أو الفرقة ويسمونه (مؤخر الصداق)، وفي كل هذه الصور، وعندما يحل أجل الوفاء سنجد أن المبلغ المتفق عليه أقل بقليل أو كثير من حيث قوته الشرائية، أو من حيث قيمته بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى، وإن كان مماثلاً له في الكم والعدد؛ وكان قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي وبالإجماع في هذه المسألة شافيا ووافيا، وجامعا ومانعا؛ وهو أنه في حالة (التضخم اليسير) يكون وفاء الديون الثابتة بعملة ما، بالمثل وليس بالقيمة، وفي حالة (التضخم الفاحش أو الجامح) يرجع التقدير إلى التراضي أو القضاء أو التحكيم، وأنه لا مانع من اتفاق الدائن والمدين (عند السداد) على رد الدين بالقيمة، أو توزيع الضرر بين الطرفين صلحاً، كما يجوز إمضاؤه قضاء أو تحكيماً، ولا يجوز الاتفاق على ذلك (عند التعاقد). وجاء هذا القرار الحاسم ليثبت أن مسألة التضخم مسألة اجتهادية، وليست أمرا منصوصا، وأن العدل والقسط اقتضى أن يخرج القرار بالصورة التي خرج عليها، وأن الزيادة المدفوعة لا تعد زيادة، لأن (القيمة) معيار كمعيار الكيل والوزن، وأنها زيادة صورية بسبب أن الثمن قد تعيَّب، مع التأكيد على عدم شرط ذلك مسبقا.

أختم بالتأكيد على ضرورة دعم مجمع الفقه الإسلامي الدولي، بالمضي قدما في بيان أحكام القضايا الفقهية المستجدة، والتيسير عليه في القيام بخدمة العلم، وتقريبه إلى الناس، دون تساهل أو تشديد، والمرجو من القائمين عليه الإسراع في طرح أفكار جديدة لتمويل مشاريعه، ولعل إنشاء (أوقاف) عامة تساهم فيها الدول والمؤسسات والأفراد، يكون حلا مناسبا وبديلا لتلكؤ وتسويف من لا يليق بهم ذلك.