الأيديولوجيا هنا، هي المعتقدات الشمولية التي تشكل ثقافة المجتمعات والدول، وقد تكون في الدين السماوي مثل الإسلام، أو المذاهب الشمولية مثل الشيوعية، وقد تكون جملة من المعتقدات والمذاهب والأفكار التي تشكل النظام الاجتماعي.

أزمة الأيديولوجيا -خاصة في منطقتنا المأزومة- هي جعل الإنسان خادما للأيديولوجيا حتى ولو كان على حساب مصلحته الإنسانية.

فالأيديولوجيا يفترض أن تكون في خدمة الإنسان، وأن تكون مرنة قابلة للتعديل والتغيير، والتكيف حسبما تقتضيه مصلحة الإنسان، حتى لو كان مذهبا لدين سماوي مثل الإسلام، وهو ما يرجع بنا إلى القضية الفقهية لمقاصد التشريع، باعتبار الإسلام نظاما يحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهو ما يجعلنا -أيضا- بحاجة إلى استيعاب المفاهيم الحديثة عن الاحتياجات الإنسانية الأساسية لحاجات الجسد والأمن والمجتمع والتقدير وإثبات الذات، والذي أصبح جزءا من إطار ما يعرف بدولة الخدمات العامة، والتي وُجدت لخدمة الإنسان.

رغم هذا السواد المنتشر في المنطقة، إلا أننا يمكن أن ننظر إلى تاريخها ومستقبلها، لنرى بكل وضوح حالة سقوط شعبي تدريجي للتيارات الأيديولوجية التخريبية كافة، والتي حوّلت الإنسان إلى خادم للأيديولوجيا، وبالتالي خادما لقادة الأيديولوجيا، وذلك على حساب إنسانيته، وهو ما نراه يحدث في العراق ولبنان وإيران، وقبلها في مصر، خلال الغضب الشعبي المتنامي ضد الأيديولوجيات الأممية والحركات الإسلاموية وملاليها ومرشديها، بل وحتى ما حدث في قلب المملكة العربية السعودية، خلال سقوط الأممية الشعبي، ورسوخ الفكرة الوطنية الأصيلة، باعتبار الدولة بكل مكوناتها ونظامها في الحكم هي ما يقدم الأيديولوجيا المرنة والمتغيرة، حسبما تقتضيه مصلحة الإنسان وكرامته.

لا نستطيع أن نغفل تأثير التغيير الذي حدث في السعودية على بقية المنطقة، خاصة بعد تبني سياسة الحزم مع الأنظمة الأيديولوجية المارقة في المنطقة، والتي تسعى إلى دعم الميليشيات والأحزاب الإرهابية، أمثال: حزب الله، وحركة الإخوان.

وجود الأيديولوجيا أو الإلهام أو فكرة الوجود، هو أحد الأساسات التي تعبر عن النظام الاجتماعي المؤسس للحضارة وطبيعتها، هي التي تزيد من الإنتاج الحضاري أو تقوم بكبحه وإنقاصه. فالأزمة تبدأ عند جعل الأيديولوجيا نظاما متحجرا منغلقا ثابتا لا يتغير ولا يخدم الإنسان، ولو نظرنا إلى الطور الثالث لتأسيس المملكة العربية السعودية، لم تكن الأيديولوجيا -كما يتم تصويرها- مرتبطة بفرض مذهب واحد، وإلا لما كان للدولة الحديثة أن تستقر، إذ إن الدولة الثالثة بقيادة المؤسس تحالفت داخليا مع جماعات من مختلف المذاهب، مثل: الإسماعيلية والجعفرية والزيدية والصوفية، وحتى مع جماعات من مدارس فقهية سنّية مختلفة: من شافعية ومالكية، غير أن الأيديولوجيا المؤسسة للدولة السعودية -وفي أطوارها كافة- قامت في الأساس على المبدأ التقليدي التاريخي الذي تأسست خلاله كثير من الدول في الجزيرة العربية، وهو مبدأ التحالف القبلي القومي العروبي، مع القيادة الملكية التاريخية القادرة على فرض الأمن وتوفير الحماية والاحتياجات الأساسية، وهو ما كنا نراه حتى ما قبل مرحلة النفط، وكيف كان دور الدولة في توفير المساعدات الغذائية للمناطق التي تعاني من الجوع، وتوفير فرص العمل في المناطق التي تتوافر فيها مناجم الفحم والذهب، وهو ما استمر مع ظهور النفط بشكل أوسع في عقد اجتماعي تقليدي، يقوم على مبادئ عدة، منها الثقة والعهود وقوة الدولة في احتكارها للسلطة وفرض الأمن.

نشوء الدول واستقرارها ليس مجرد أيديولوجيا، فهناك عوامل مادية على رأسها الاقتصاد، ولكن الأيديولوجيا تحقق الإلهام وفق ما يبنيه هذا التشكل بين الدولة وبين المجتمع، وهو التشكل الذي يجب أن يتميز بالثبات والقدرة على التناغم مع المتغيرات في آن واحد. فهدف الإلهام المحرك للدول هو تحقيق الحلم الإنساني في البقاء.

تجربة المملكة العربية السعودية ونجاحها المستمر في الثبات والتغير، هي أفضل الدروس لهذه القدرات الاستثنائية في التكيف مع الأيديولوجيا، حسبما تقتضيه مصلحة الإنسان، كما أن بلورة مفهوم الانتماء إلى الوطن وصعوده العظيم في المملكة لم يُخترع ولم يأتِ من عدم، إنما هو تطور لحالة الانتماء القبلي العروبي عبر تحالف القبائل العربية ضد الشرور الخارجية، التي تمثلت في غالب مراحل العرب ضد شرور الترك والفرس، إضافة إلى كونه نتيجة للشعور بفشل الفكرة الأممية وعبثها وخطورتها على استقرار هذا النسيج الاجتماعي الوطني، الذي أثبت فعاليته وقدرته على البقاء.