مَن منّا لم يسمع بعبارة «فكِّر خارج الصندوق»؟، ربّما سمع بها خلال دورة أو ورشة عمل، أو قرأها في مقالة أو دراسة، أو حتى سمعها من معلم أو معلمة.

والتفكير خارج الصندوق هنا، هو الإبداع بغض النظر عن المجال الذي نتحدث عنه، ولكن المشكلة في معظم المناقشات حول التفكير خارج الصندوق، هي أنها تركّز كثيرا على ما يسمى «خارج الصندوق»، وهو فضاء واسع بلا حدود، وننسى أهم شيء، مما يُعدّ أساسيا خلال التدريب أو التطبيق لهذه الطريقة من التفكير، ألا وهو الصندوق ذاته!.

وإذا أردتُ أن أشجع طالباتي على التفكير الإبداعي في إيجاد الحلول، كنت أردّد عليهن «لا يحدّك سوى خيالك»، ولكن كنت أذكّرهن بالحدود أو بالصندوق الذي سينطلقن منه، خلال أسئلة متتابعة تلي ذلك، لتساعدهن على التعرف على ما لديهن من قدرات، وكيف يمكن أن تخدم القضية قيد النقاش؟

مثلا، في حالة البحث عن وظيفة أو خلق وظيفة أو مجال عمل. إحدى خريجات اللغة الإنجليزية تسأل: أين يمكن أن أعمل غير مجال التعليم، ومن المعروف أن هذا المجال، أي التعليم، قد قلّت فرص التوظيف فيه؟

سؤالي لها: هل لديك مخزون من المفردات اللغوية؟ هل بإمكانك القيام بالترجمة؟ هل بإمكانك مراجعة عمل واكتشاف أخطاء لغوية من حيث البناء والتركيب في الجمل؟ هل لديك قدرة على التعامل مع الأطفال؟ هل لديك جيران؟ هل لديك خبرة في الحاسوب، الإنترنت، مهارات البحث على الإنترنت؟ هل تقرئين صحفا باللغة الإنجليزية؟ هل لديك القدرة على الكتابة للأطفال؟... إلخ.

المهم بعد ذلك، أطلب منها الانطلاق للتعرف على ما يمكن أن تفعله خلال هذه المعلومات عن نفسها في مجال سوق العمل.

المهم أيضا، أن تتعرف على الحدود والقواعد التي قد تحدّ من تحركاتها، وتفكر في كيفية اختراقها للتوصل إلى الحل الأمثل في حالتها، وكثيرا ما وجدت هذه الطريقة مفيدة مع الحالة نفسها من طالبات تخصصات أخرى، مثل اللغة العربية أو الجغرافيا أو التربية الخاصة. هناك دائما حل، ولكن قبل الانطلاق خارج الصندوق، يجب أن نحدد ماهية هذا الصندوق!.

ولذا، إن أردتَ أن تنطلق، أفلا يجب أن يكون هناك مكان تنطلق منه؟ فأنت لا تنطلق من فراغ.

إذًا، لا يمكنك التفكير خارج الصندوق إلا إذا كان لديك صندوق!، والذي يحدث أننا -كتربويين وخبراء في تطوير الذات ومخططين- ننسى أهمية الصندوق!.

إنني -كتربوية- حين أعطي الطالبات مهمة دون أي قواعد أو تعليمات، أفقدهن!، لأنهن يشعرن بالضياع، لأنهنّ لا يعلمن من أين يبدأن وأين ينتهين؟!

والذي لاحظته، أنني حين أضع لهن قواعد وحدودا، تبدأ المحاولات الإبداعية للخروج من هذه القيود!، بمعنى آخر يبدأ التفكير الإبداعي في العمل بالدفع خارج حدود الصندوق، إذ يقمن باكتشافات جديدة وبمفردهن.

ما أريد قوله هنا، إنني أحدّد لهن نقطة البداية، من مكان يعرفنه، صندوقهن، وكلما زاد تفكيرهن في طرق لكسر تلك القواعد، زادت إبداعاتهن.

لذا، أنت كمخطط، إذا كنتَ لا تضع قواعد لنفسك فأنت لا تمنح نفسك الفرصة كي تكون مبدعا!، وإذا لم تضع الحدود، وتحددها بدقة، فماذا تكون قد فعلت؟

فمثلا، إذا كانت عندك قضية في المدرسة أو في مؤسسة تعليم عال، فكيف تضع لها الحلول؟. السؤال هنا: كيف تخرج من الصندوق لتجد الحلول وأنت في الأصل لا تعرف ما في الصندوق؟، الحدود والقوانين والتشريعات والتعميمات على سبيل المثال؟ ماذا عن البنية التحتية؟ وما مدى القدرات التي تسمح بها؟ والطلاب؟ والهيئة التعليمية؟ والإدارية؟ والخدمات المساندة؟ والمجتمع الحاضن من الأهل أو المؤسسات الأخرى، والإمكانات التي تحملها، سواء في دعم أو تحجيم دور وأهداف مؤسستك؟

لنعد إلى بداية الفقرة، ونعيد السؤال: ماذا تكون قد فعلت؟ إنك تكون كمن يستغني عن الأساس ويتجه إلى المجهول!.

عندما تحدد كل ما يوجد في الصندوق، وتضعه أمامك في جمل واضحة ومقتصرة، تتمثل في التعريف والاحتياجات والتحديات، نعم حتى القوانين والتعميمات.

من هنا، تستطيع أن تأتي بالمشكلة أو القضية التي تفكر فيها، وتقوم بالبحث عن حلول إبداعية خارج الصندوق، أين الإبداع؟ الإبداع يكمن في الخروج عن القواعد والمحددات، لتكتشف طرقا أو أساليب جديدة في إحداث التغيير الإيجابي للمؤسسة التعليمية التي تنتمي إليها، وهنا يصبح دورك مصمما بدلا من إداري في مركز إداري يقوم بمهام كمراقب أو مشرف أو واضع القوانين، والمحاسب!

بينما التصميم هنا يعني، أن تكون أنت أول من ينفّذ هذا النوع من التفكير، وتقوم بتوضيح ذلك بشتى الطرق لكل شريحة، حسب مفرداتها اللغوية التخصصية، المهم أن تحرك المياه الراكدة، وتخلق الدافع الداخلي في نفوس الغالبية للإبداع، في وضع مبادرات وخطط إبداعية تسهم في الهدف الرئيسي للمؤسسة، وهو نوعية المخرجات التي تتسق مع متطلبات العصر الحديث، سواء كان ذلك المنتج طلابا أو مشاريع أو دراسات ونتائج تخدم العلم والمجتمع والإنسانية.

إن أي عمل إبداعي يبدأ من المعروف، من الأصل، ثم ينطلق إلى الجديد، أي التمكن أولا من الأدوات الأساسية والتعرف عليها وتحديدها، ثم البدء في الخروج منها إلى خارج الصندوق.

على سبيل المثال، «بل جيتس» مؤسس شركة «أبل»، هل انطلق مباشرة إلى الإبداع دون التمكن من الأساسيات؟ حتى وإن لم يكمل دراسته الجامعية، لقد كان على اطلاع بكل ما يحتاجه التخصص، إضافة إلى ما يحتاجه المستخدم، ثم صعد على سلم الإبداع درجةً درجة.

المهم هنا، أنه كلما صنع لنفسه صندوقا انطلق منه إلى الذي يليه، بمعنى التجديد.

فلا تخرج من صندوق لتدخل في آخر وتسجن نفسك داخله، وبهذا تحكم على نفسك بالجمود!، فكل ما حولك هو حيوي وفي تغيير مستمر، فإذا أردت أن تجاري هذه التغييرات ولا تدعها تتحكم في مصيرك، فعليك أن تعرف أين أنت؟ وما يؤثر على تقدمك، ثم تخرج إلى الصندوق الأكبر الذي يليه، وهكذا.

المهم هنا، أن تدرك أن التفكير خارج الصندوق لا يعني أن تجري في فراغ، كل حركة.. كل فكرة.. كل شيء.. لها قوانين وحدود، وعملك هو كيف تجعل هذه القوانين تعمل لمصلحتك؟ وكيف تتوسع في مساحات الحدود لتصل إلى مسطحات جديدة؟ وبهذا تستمر عملية الإبداع.