اتخذت بلادنا العظيمة موقعا عالميا في سن القوانين والمناداة بتطبيقها على الكبير قبل الصغير. والقانون -وإن كان استحقاقا يأتي حسب متطلبات المرحلة واحتياجات الناس- فهو عندما يشرع يصبح مكتسبا من مكتسبات الأمة، تحميه الدولة وتفعّله عبر وزاراتها وهيئاتها.

أقول هذا، وأنا أرصد فجوة كبيرة بين رؤية الدولة المتمثلة في تشريعاتها القانونية،

وبين سلوك بعض الموظفين الذين أنيطت بهم مسؤولية تلقي الشكاوى والبلاغات. فكثير منهم يتعامل مع المسألة كمجرد وظيفة يؤديها خلال ساعات دوامه.

فتجد بعضهم يتقاعس عن تسجيل الشكوى، أو يحاول إقناع المشتكي بالتنازل، فإن لم يتنازل قام هو باتخاذ قرار تعطيل الشكوى.

هكذا! بكل بساطة، مجلس عرب، لا أثر فيه للقانون وإجراءاته، وكأنما القانون في بعض مخافر الشرطة هو مجرد حبر على ورق. مع ملاحظة أن المشتكي أو وكيله ربما تجشّموا عناء السفر والانتقال إلى مدينة الخصم لتقديم الشكوى، فيكون أمرا بالغ السوء أن ترد شكواهم على طاولة مخفر الشرطة دون سند نظامي.

وقد يضطر المشتكي عندها أن يتوجه إلى النيابة، التي تعيده إلى مركز الشرطة لاستكمال الإجراءات، وخلال هذا المشوار يتنازل بعضهم عن حقوقهم ولسان حالهم يقول: «الراحة نصف القوت»!.

الأمن شرف الدولة، إنها العقيدة التي يجب أن يؤمن بها رجل الشرطة، وينطلق منها في فهم القانون واستشعار المسؤولية تجاه تنفيذه.

صحيح أن بعض الشكاوى سخيفة وبسيطة، بل ومضحكة أحيانا، ولكن الحس الأمني يتطلب تسجيلها، فقد تتحول إلى قرائن أمام القضاء في حال ترتبت عليها أمور أخرى. إن العدالة هي الروح التي يتعامل معها جميع العاملين في قطاعات الأمن والقانون، وهي روح البقاء والكرامة لأي أمة، وإنّ أي سلوك من شأنه هدر روح العدالة، لهو سلوكٌ يستوجب المحاسبة.

لكن من جهة أخرى، فإننا ونحن ندخل عصر التحول الرقمي، في حاجة إلى إعادة النظر في الطريقة الورقية التي نتّبعها في تقديم الشكاوى. وربما تكون إتاحة قنوات إلكترونية يسجل المواطنون شكاواهم خلالها، خطوةً في الاتجاه الصحيح.

فالشكوى الإلكترونية سيكون من شأنها تقليل الجهد والوقت، وستكون قفزا احترافيا على البيروقراطية، والأهواء الشخصية، كما أنها ستضمن أعلى درجات الشفافية ومحاصرة المحسوبيات.

إنني أدعو -وبشدة- إلى تدشين منصة إلكترونية وطنية، بواجهات سهلة الاستخدام لتقديم الشكاوى الابتدائية، يتمكن المستخدم خلالها من رفع شكواه وإثباتاته، ويتابعها برقم خاص حتى تصل إلى وجهتها.

إن تقليل التدخل البشري في العمل العدلي، هو مرحلة متطورة سيتعلم الجميع خلالها أهمية الكلمة وقيمة الدليل. بل وأزعم أنها ستخرج العدالة من صندوقها الأسود الذي يجعلها شغلا للمتخصصين، وترسّخها كمبدأ إنساني من مبادئ التعامل، يفهمه الجميع ويتشاركون في تفعيله.