في وقت بلغت الأزمة، إثر الاحتجاجات الشعبية في العراق، ذروتها، باتت البلاد أمام طريق مسدود مع تمسّك قادة الأحزاب والتيارات بمكاسبهم المالية والسياسية ورفضهم أي تنازل، بحسب خبراء ومسؤولين. وتعمل معظم التيارات الشريكة في السلطة وفق مقولة «كلام الليل يمحوه النهار»: في تصريحاتها تأييد للإصلاح وعزم على مكافحة الفساد والاستجابة لطلبات المحتجين في بغداد ومدن الجنوب منذ الأول من أكتوبر، وفي الخفاء عمل متواصل على تقاسم المغانم والمناصب.

وقتل 6 متظاهرين بالرصاص في جنوب العراق، أمس، مع تصاعد العصيان المدني بعد قرابة شهرين من احتجاجات دامية تعتبر الأكبر في التاريخ الحديث للبلاد، يقابلها غياب أي أفق لحل سياسي.

وفي وقت يحاول رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي الذي تولى منصبه قبل 13 شهرا بتوافق سياسي، في العلن اتخاذ إجراءات وتدابير قد تقصي وزراء حزبيين، يصطدم برفض الأحزاب للتغيير خشية فقدان مكاسبها في بلد غني بنفط يدر مليارات الدولارات سنويا.

ولم تغير الاحتجاجات التي راح ضحيتها نحو 350 شخصا غالبيتهم من المتظاهرين، من الممارسات السياسية في بلد يحتل المركز 168 من 180 على لائحة أكثر الدول فسادا، بحسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية.

شراء المناصب

رغم ضغط الاحتجاجات المطلبية غير المسبوقة منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003، تتمسك السلطة بنظام المحاصصة. وبحسب الخبير الاقتصادي علي المولوي، زاد عدد موظفي القطاع العام ثلاثة أضعاف منذ 2003، بينما كانت الزيادة في الرواتب التي تدفع لهؤلاء تسعة أضعاف!

وبلغ حجم رواتب القطاع العام 36 مليار دولار، أي نحو ثلث موازنة عام 2019 التي تعد الأكبر في التاريخ الحديث للعراق.

ومن المتوقع أن ترتفع قيمة هذه الرواتب في موازنة 2020، مع سعي السلطات لزيادة الإنفاق وتوفير مزيد من الوظائف أملا بتهدئة المحتجين، ومحاولة خفض نسبة البطالة التي تبلغ 25 بالمائة لدى الشباب.

ويقول مصدر حكومي، إن المناصب باتت تخضع لمنطق البيع والشراء، موضحا أن «وزارة معينة تخصص لحزب سياسي، ويقوم الأخير ببيعها لمن يدفع المبلغ الأكبر». ويشير إلى أن بعض الوزارات بيعت بـ20 مليون دولار.

وفي بلد متعدد الطوائف والانتماءات، باتت هذه العوامل أساسية في التعيينات الرسمية، بحسب الباحث العراقي حارث حسن.

ويوضح أن «صيغة الحكم الإثني - الطائفي وزعت السلطة والموارد بين العديد من اللاعبين» المؤثرين في التركيبة الحاكمة، مشيرا إلى أن هؤلاء «استفادوا من ضعف المؤسسات الرسمية لتعزيز سلطاتهم الذاتية».

في الآونة الأخيرة، وبينما كان عشرات الآلاف من العراقيين في الشارع يطالبون بـ»إسقاط النظام» والإصلاح، تسربت قائمة بتعيين عدد كبير من المدراء العامين والوكلاء في الوزارات وفق انتماءات حزبية وسياسية. فعلى سبيل المثال، عيّن فالح، شقيق هادي العامري رئيس ائتلاف «الفتح» وزعيم منظمة بدر المقربة من إيران وأحد الداعمين لوصول عبدالمهدي إلى السلطة، رئيسا لدائرة المنظمات في وزارة الخارجية التي تتعامل مع غالبية المنظمات الدولية، رغم عدم إتقانه الحديث باللغة الإنجليزية. كما عيّنت شقيقة العامري مستشارة في وزارة الخارجية.

وعيّن جعفر الصدر، ابن عم رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر، سفيرا للعراق في لندن، وهو الآخر لا يجيد الإنجليزية. كما عيّن أحمد الصدر، ابن شقيق مقتدى، في منصب السكرتير الأول في السفارة.

كسر غصن الفساد

يسمع المتظاهرون بوعود وخطوات تبقى عمليا دون أي تطبيق فعلي. ففي مجال مكافحة الفساد المالي على سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء قائمة بـ60 اسما من المتورطين وأحالهم على هيئة النزاهة المختصة بمكافحة مختلف الفساد في الإدارات الرسمية، وإن كان دورها شبه معطل بسبب الضغوط السياسية المتبادلة من قبل أطراف مختلفة.

وأصدرت الهيئة أوامر توقيف بحق مسؤولين غالبيتهم من الوزراء والمحافظين السابقين، لكن يرجح أن تبقى حبرا على ورق نظرا لأن غالبيتهم خارج البلاد، والبقية اتهموا بقضايا صغيرة لا تقارن بحجم الشبهات التي تحوم حول المسؤولين الكبار.

وباتت المناصب الرسمية جزءا من وضع يد الأحزاب على مقدرات الدولة ومواردها المالية والعقود والاستثمارات.