الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- آتاه الله العلم والحكمة، والزهد في الدنيا، والتواضع الجم، والتفرغ التام للعلم والتعليم، فالتف حوله أعداد هائلة من طلاب العلم من المملكة وخارجها، وكان أسلوبه في التعليم حواريا نافعا، ومع أن دروس الشيخ علمية صرفة في تفسير القرآن الكريم، وشرح الأحاديث النبوية، والمتون العلمية، إلا أنه يتكلم عند الحاجة في قضايا تربوية أو منهجية، غاية في الأهمية، ومن ذلك أنه قام أشخاص عام 1413 للهجرة، وكوَّنوا لجنة باسم الدفاع عن الحقوق الشرعية، ونصَّبوا أنفسهم مدافعين عن المظلومين، وطلبوا أن يتواصل معهم كل من ظُلم، عن طريق أرقام هاتفية نشروها، وقد انخدع بهم بعض الناس، وصاروا يجوبون بعض البلاد ويقولون: أيِّدْ.. أيِّدْ، وكانوا يستنكرون على شيخنا إنكاره عليهم، في بيان هيئة كبار العلماء، ويقولون الظلم موجود ولا بد من إزالته، فاضطر الشيخ إلى حوارهم فكان مما قاله ما يأتي: (لا شك أن الظلم موجود، وأن الاستئثار موجود، وهذا الظلم أصله موجود في عهد الرسول، عليه الصلاة والسلام، وما قصة الكندي والحضرمي بخافية على كثير من طلبة العلم، حيث غصبه أرضه وتخاصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والغش كذلك موجود في عهد الرسول، وهو ظلم، وإنكار العقد موجود في عهد الرسول، وهو ظلم، كما في قصة الذي باع للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم أنكر أنه باع عليه، وشرب الخمر بعد تحريمه موجود، والزنا موجود، والاستئثار أخبر عنه النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه وقال لهم: (ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، فأمرهم بالصبر على الأثرة حتى يلقوه على الحوض، وما زالت الأمة الإسلامية تعاني من الظلم في أموالها وأعراضها وفي دينها، ولا يخفى علينا ما جرى على الإمام أحمد -رحمه الله- وعلى غيره من أهله العلم، هذه المقدمة مسلمة لا أحد يعارض فيها، ولا شك أن الظلم عندنا موجود، وأن الاستئثار موجود، وأن فساد الإدارة في بعض القطاعات موجود أيضا، هذا لا شك فيه، ولا شك أن الشعب في الوقت الحاضر ليس كالشعب في وقت الرسول، عليه الصلاة والسلام، ولا في وقت الخلفاء الراشدين، وكما تكونون يولى عليكم، ولهذا يُذكر أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- جاءه رجل من الخوارج وقال:

ما بال الناس اتفقوا على أبي بكر وعمر، ولم يتفقوا عليك؟ فقال: لأن رجال أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورجالي أنت وأمثالك، فألقمه حجرا، وإذا نظرتَ إلى أحوال المسلمين اليوم أعني عامة الشعب، وجدتَ عندهم من الظلم والغش والكذب والحيل وإضاعة الواجبات والتفريط في البر وصلة الأرحام وغيرها الشيء الكثير، فلا جرم أن يُسلَّط عليهم بسبب ظلمهم كما قال الله تعالى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)، فهناك ظلم في الرعية، وهناك ظلم في الرعاة، وهناك استئثار قائم على الرعية، واستئثار قائم من الرعية بعضهم على بعض، وهذا أيضا واقع، ولكن أن تقوم فئة من الناس بنصب نفسها، وهي تحت ظل حكومة شرعية، وتخوِّل لنفسها أن تنصِّب نفسها، هذا غير صحيح وغير سائغ إطلاقا، لأنه دخول حكم في حكم، فالذي يولي المناصب سواء قضاء أو إفتاء ونحوهما هو ولي الأمر الذي له البيعة على الناس، وكون طائفة من الناس تعدو على سلطته وتنصب نفسها، رافعة شعار رفع الظلم، هذا خطأ، إنه مهما وُجد من الظلم فالاعتداء على حق السلطة ليس بالأمر الهيِّن، لأن العدوان على حق السلطة يوجب أن لكل فرد يعنّ له أن يخرج على السلطة، ويسلب سلطانها يفعل، وإذا قامت هذه الفئة منصبة نفسها بدفع الظلم، فستقوم فئة أخرى من الشيوعيين أو العلمانيين أو غيرهم، وتُبرز نفسها وتقول أنا مظلومة، وتأتي طوائف البدع بشتى أنواعها وتقول: سنتكلم في الدين بما شئنا، وإلا فهذا ظلم، لا إكراه في الدين، كما وجد الآن المطالبة من بعض أهل البدع المعروفين عند كثير منكم يطالبون بأن يرفعوا بدعتهم كما يرفع أهل السنة سنتهم، ولما لم يُمكّنوا من ذلك، قالوا هذا ظلم، فما معيار قياس الظلم؟ أليس كل الذين يختصمون عند القضاة يدّعون المظلومية؟

إن هذه النواة إذا كُوّنت فسيأتي ولو بعد زمن غير بعيد من ينادي بما قلت الآن، ويدل على هذا فرح أهل الكفر من الغربيين وغيرهم بتكوين هذه اللجنة والدندنة عليها، والتعليق عليها في صحفهم وإذاعاتهم، ثالثا نقول: ما هذا الظلم الذي يرفع إليكم؟ كل إنسان يتصل على تلفون حسب الأرقام التي أعلنوها ويقول أنا مظلوم، وهو أكذب الكاذبين، وربما يصور شيئا مفتعلا لا حقيقة له، ليكثر العدد، ثم لا ندري ربما ينشر عدد المدّعين للظلم، في الصحف الأجنبية أو المراسلين في الإذاعات، لا ندري الأيام حبلى لا ندري ما تضع، فهذا أمر ربما يقع وهو غير صحيح.

رابعا: إن من يطلع على بيانهم يظن أن البلاد السعودية نصفها قد ظُلم، وهذا لا حقيقة له، فالشعب السعودي الآن بالملايين، فمن يستطيع أن يحصي ألفا من هؤلاء الملايين أنهم ظلموا ظلما محققا، وأنا أقول ظلما محققا، أعني به الذي ينظر فيه إلى المسألة من الجانبين، لأن بعض الناس ينظر إلى المسائل التي يدعى فيها الظلم من جانب واحد، ومعلوم أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، يأتيك الإنسان أحيانا يصور لك المسألة كأنه مظلوم أشد الظلم، ثم إذا تكلمت مع خصمه وجدته أنه كاذب، وأنه لم يُظلَم، فلذلك تعتبر هذه المسألة خطيرة بحد ذاتها، يحتج بعضهم بحلف الفضول في بيت عبدالله بن جدعان، ولكن هذا قياس مع الفارق، لأن حلف الفضول ليس تحت راية معينة أو حاكم شرعي، يدبر الأمور، ثم الحلف الذي وقع، وقع من الرؤساء والوجهاء الذين بيدهم الحل والعقد وليس أي واحد من الناس، فالقياس مع الفارق من وجهين، ونصرة المظلوم مطلوبة، ولكن إذا كنا تحت ولاية شرعية، وبيعة شرعية، فإنا لا نتصرف هذا الأمر، إلا بعد موافقة ولي الأمر.

خامسا: إذا كوّنت مثل هذه اللجنة فسوف يتصور العالم أنه لا يوجد أحد في هذه البلاد من أهل الخير إلا هذه الطائفة التي نصّبت نفسها، وهذا لا شك هضم لحقوق أهل الخير الموجودين في البلاد، ولا يحل لأحد أن يفعل ما فيه حط من حق أخيه.

فالحاصل: أني أشهد اللهَ، وأشهدكم، وأدين الله -عز وجل- أن قيام هذه اللجنة، وتنصيبهم لأنفسهم، خطأ مخالف لنهج السلف، وأنه يترتب عليه أضرار عظيمة كتفريق الأمة، والدعاوى الباطلة بالظلم، والعدوان على السلطة، وغير ذلك من الأمور التي لو تأملها الإنسان لوجدها خطيرة، هل أحد من الصحابة أو التابعين أو غيرهم أقاموا أحدا ينابذ الظلم على هذه الكيفية؟! ما علمنا هذا، ونحن علينا أن نسلك مسلك السلف الصالح، فالذي أدين الله به، إن قيامها غير مشروع، وغير جائز، وإنه مخالف لهدي السلف الصالح، وإنه يترتب عليه من المفاسد ما ذكرته لكم، وربما عند التأمل يتبين من المفاسد أكثر مما ذكرته لكم، ولكن أسأل الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته أن يهديهم إلى الحق، وأن يتوبوا إلى الله مما صنعوا، وأن يقي هذه البلاد شر الفتن، ونحن الحمد لله بخير، وكما ترون بلادنا واسعة الأرجاء، كبيرة الأراضي، كثيرة الجبال والأودية، لو قدر الله أنه سيكون اختلاف ماذا سيكون الحال؟ والله ما أحد يستطيع يمشي من عنيزة إلى بريدة إلا بسلاح، ما الواقع فيما سبق؟ قال لي أحد كبار السن: إن سنة من السنوات أصابنا خوف في رمضان فكنا نخرج إلى صلاة العشاء والتراويح والبنادق معنا، فلهذا أنا أرى أن كل تصرف يوجب تفرق الناس، والإخلال بالأمن، أنه إساءة عظيمة إلى هذه البلاد وشعبها، فالذي أنصحكم به أيها الإخوة أن تتأملوا الموضوع بتأنٍّ لا بعاطفة عاصفة، المسألة ليست مسألة نصر مظلوم، انظروا ماذا يترتب على هذا الأمر العظيم من الشر والبلاء والفتن والابتداع، والحمد لله في هذه البلاد ما يرفع به الظلم من المحاكم الشرعية المنتشرة في كل مكان في المملكة، حتى القرى فيها قضاة، وكذلك ديوان المظالم بالنسبة للشركات ونحوها، والواجب علينا أن نساعد ولاة الأمور على مهماتهم، وأن نحرص كل الحرص على ما يطمئن الناس بالنسبة لهم، وأن ندعو الله للولاة بالخير، وننصح في إزالة الأخطاء في إزالتها أو تخفيفها، ونحن لا نبرئ أحدا من الخطأ، ولكن ننكر المخالفة في أسلوب المعالجة، ولا نخاف في الله لومة لائم، ولا نخشى أحدا، فنحن الحمد الله مستقلون بأنفسنا في بيوتنا، ومستقلون بأنفسنا في قبورنا، لا نجامل أحداً، رضي من رضي أو سخط من سخط، نرى أن هذا الطريق طريق غير صواب، ونسأل الله الهداية للجميع).

أقول: وبعد مضي عشرات السنين على إنشاء تلك اللجنة استمعت قبل أيام إلى أحد أبرز مؤسسي تلك اللجنة المشبوهة، وهو يتحدث في مذكراته لوسيلة إعلامية خارجية عنها، وقد ذكر أنهم اتخذوها ذريعة لنشاطات سياسية مستقبلية مناوئة لمنهج الدولة، وهذا ما توقعه شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- فور إعلانها.