ليوم الجمعة أجواؤه الروحانية المختلفة عن سائر أيام الأسبوع..أبي رحمة الله عليه كان يفيق باكرا فيهرع إلى بخاخه «الفولتارين» الذي رافقه حتى آخر لحظة أودعناه فيها ثلاجة الموتى، وكان هذا البخاخ بمثابة الأكسير الذي يسري إلى رئتيه ليقاوم به كل هذا التلوث المحيط بصدره الطاهر.

يشعل الأضواء فيبدو المنزل وكأن فيه حفلة عشاء، يبدأ بأمي أولاً وهي في الأصل مستيقظة، ثم يطرق غرفة الأبناء ويبدأ بمناداة كل منا باسمه، وربما كان لدينا ضيف فيسبق إليه أحيانا. فيتنحنح في صالة البيت في إشارة منه بالقرب من غرفة البنات ليوقظهن، لأنه فارقهن ليلتها ونام ولديهن ضيوفهن فلا يدري هل نمن لدينا أم رحلن.

ويتجه نحو المسجد من طريق ويعود من آخر، مروراً بالمركز التجاري ليتبضع، فيعود حاملاً بكلتا يديه كل ما لذ وطاب وتحت إبطيه «صحيفة المدينة» بملحقها الشهير «الرسالة» الذي يطبع يوم الجمعة. كنتُ دائم التطفل على مقتنياته دائما ما ينتابني إحساس بأني الطفل الوحيد في العالم الذي لديه «أب»..

كنت مغرما بحديثه وظرفه الذي عرف عنه بإلقائه النكات رغم أنه مُهاب.

عيناه بريئتان رغم حدتهما، قلبه لا يعرف الحقد.. يقول: (كلمته في حينها ويمشي)، حسه الأمني عالٍ جداً ربما بسبب عمله بالاستخبارات قرابة الثلاثين عاما..

ساعته «اوميغا» لطالما ارتديتها منذ الصغر وتسقط من يدي، أتذكر وعدني بأنه سيهديني إياها عندما أكبر.

كان ينظر إليها كثيرا وكأنه يخبرنا بأن الوقت يمضي ومؤخرا ضعفت ذاكرته فأصبح يسأل عن ساعته التي تخبئها أختي، لأن زجاجها الخارجي كُسِر، وكذلك يسأل عن أبنائه الذين يقطنون خارج مكان إقامته.

قبل بضعة أيام من وفاته أخبرتني عزّة وهي أختي التي «أنعشته لحظة وفاته بالتنفس الصناعي» فشهق الشهقة الأخيرة وفارق الحياة، وللمفارقة عزّة هذه هي التي أخبرت جاراتنا بالحي أن أمي جاءها المخاض لتلدني فكانت بمثابة روح تمنح الأرواح، إن عاصم شقيقي الذي يقطن بجواره بدأ يغار منا، نحن - عبدالمجيد شقيقي الأكبر ومنال طفلته الأولى وأنا آخر العنقود - لكثرة سؤاله عنا - نحن المقيمين بعيداً عنه، ولا يعرف عاصم أن تلك الساعة اطلعت على الكثير وكأنها تنظر للغيب من سترٍ رقيق، فعندما توقفت تماما عن النبض توقف نبضه أيضا.

كنت أعلم أن سقوط الساعة من يدي منذ الصغر تعني نهاية الوقت، لطالما نظر إليها وكأنه ينتظر نهايتها أو ينتظر هو نهايته. عندما ينتهي من قراءة صحيفته، يومئ إليّ برأسه، فأذهب إليه وأحمل الصحيفة بملحقها وأذهب لقراءتها، وكأنه يعرف أني مغرم بمقتنياته لهذا تطفلت على مكتبته التي تضم نوادر الكتب ويقدر حجمها بألفي كتاب.

أتذكر عندما أعود من المدرسة بعد تقاعده من العمل وبعد الغداء يخلد الجميع الى النوم (قيلولة)، فكنت أنا الشيطان الذي لا يقيل وأتسلل من بين الجميع، أدخل إلى مكتبته فينتابني شعور بأني «خرونوس» -أسطورة إغريقية - فأتصرف في الزمان، وأعود مع ول ديورانت إلى -قصة الحضارة-، وأحيانا أدير عجلة الزمن مع ابن كثير من بدايته إلى نهايته، وأسلي نفسي أحيانا بقراءة الأدب العربي حتى تعرفت على عباس محمود العقاد ووجدت بينهما شبها كبيراً.

عرفت أن مكتبته ليست مجرد مكتبة، فمنذ لحظة دخولك لها نزولا لتصل إليها، تصعد إلى مطلٍ بانورامي، حيث هذا الكون أسفل منك، فترى التاريخ يسير وكذلك الأحداث تمضي وكأنك تعرف الأقدار بقراءة سير الآخرين.. حقاً فيها كتبٌ قيمة.

كم تمنيت الآن أن يكون ابناً لي، وليس أبي، لأن الطفل اليتيم الذي بداخله لم يكبر، لم يعرف القسوة قط ولم يضربنا يوماً، نظرة منه تكفي لتنهرك عن فعل خاطئ، ألم أخبركم أنه مُهاب رغم أنه طفل، لهذا تمنيته ابناً لي.

مات هذا الابن/ الأب فأصبحتُ يتيماً فقد أباه وابنه بين يديه.. وفي الحقيقة أبي لم يمت، ولن يموت.

سيظل باقيا فينا وفي الجيل الذي صنعه، لقد سمعت ألسنة الجميع تلهج بذكره وبالدعاء له، وكنت أعرف منذ قرأت ملحق الرسالة أن مثله لا يموت ورسالته باقية فينا.