يُحكى أنه حدثت مجاعة في قرية فطلب أحد الحكماء من أهلها طلبا لمواجهة القحط والجوع، وأخبرهم بأنه سيضع قِدرا كبيرا في وسط القرية والمساهمة فيه بمقدار كوب واحد من اللبن، بشرط أن يسكبه المشارك من دون أن يشاهده أحد، فذهب الناس لتلبية نداء الحكيم، وفي الصباح حضر أهل القرية وفتحوا القدر وإذا به امتلأ بالماء، وحالهم يقول «هذا من كوب الماء الذي وضعته وأنه لن يؤثر على كمية اللبن في القدر».

فمنشأ الفساد هو السلوك الخاطئ الذي يقوم به الفرد ويستصغر حجمه ويستسهل أمره، ويرى أنه على حق في فعله، وأنه بحاجة له من أجل تحقيق مصالح شخصية على حساب الآخرين، ولا يشعر بسلبية ممارسته وحرمان الآخرين منه، وآثاره السلبية على المجتمع والوطن، فالموظف الذي يتأخر عن عمله خمس دقائق والذي يرمي النفايات الصغيرة على الأرض، والذي يُهمل في جودة إنتاجه، والسائق الذي يتجاوز حد السرعة المسموح بها، والطالب الذي يكتب على جدران مدرسته، والمصلي الذي يهدر الماء في وضوئه ويتأخر عن أداء عمله، والشخص الذي يتجاوز غيره في الدور في انتظار خدمة، هو أصدق مثال على سكب كوب الماء في قدر اللبن.

فالفساد يبدأ في أول أمره سلوكا خاطئا، ثم ما يلبث أن يتحول مشروعا وحاجة لا يمكن الاستغناء عنها، وتساهلا في الحق العام والخاص، بل وتشجيع الآخرين عليه والتحدث علنا عن تلك التجاوزات، حتى يصبح سماعها ورؤيتها أمرا عاديا وسلوكا عاما، وأن مفهوم الفساد مرتبط بحجمه الكبير في التحايل لأخذ الأموال العامة أو الخاصة، أو اقتطاع الأراضي الواسعة أو تعيين الموظفين غير المستحقين، أو إعطاء المناقصات بغير وجه حق، أو عدم تنفيذ المشاريع أو التساهل والتهاون في تطبيق النظام وتنفيذ التوجيهات وتقديم الخدمات على أكمل وجه، فالناس يصفون أنفسهم بأنهم بريئون من أي سلوك لمفهوم الفساد، لأن قياساتهم ومقارناتهم بكبار الفاسدين، وأن المقارنة بعيدة والحجم لا يستحق ذكره، وأن المبرر هو الحاجة للحصول على المصلحة بغض النظر عن دخولها في حيز دائرة الفساد.

فالحكيم أراد أن يقول لأهل القرية إنه لا فرق بين كوب الماء واللبن، فكلاهما كوب، ولكن الفرق في جوهر ما يحمله الكوب من مادة، وأيضا أراد أن يُوصل أهل القرية إلى مفهوم هدف التنمية للجميع وهو امتلاء القِدر باللبن، وأن الجميع اشترك في تعبئة القِدر بأكواب الماء، فضاعت أهداف التنمية التي اشترك الناس في تحقيقها بشكل خاطئ، وأن أهل القرية اعتمدوا على مبدأ الأنانية وحب الذات وغياب المسؤولية الداخلية، وتحايلوا على أنفسهم، وهم يدركون سلوكهم الخاطئ بسكب كوب الماء بدلا من اللبن، إلا أنهم حدَّثوا أنفسهم بأن قِدر اللبن لن يتأثر بكوب الماء الذي شاركنا به والنتيجة النهائية هي الخسارة.

نحن نشاهد اليوم عددا من الحفر في شوارعنا وكثيرا من التجاوزات في مختلف نواحي الحياة والخدمات العامة والخاصة، وأيضا في قلة الإنتاج وهدر المال العام والخاص، والأخطاء في سلوك وأداء بعض موظفي الدولة، وأيضا نلاحظ عدم جودة تنفيذ الأعمال في مشاريعنا وبنيتنا التحتية، وأيضا نرى تصرفات مشينة من بعض أبناء مجتمعنا في جميع النواحي العامة، ونقابل كل ذلك بعدم الاكتراث والأهمية، وأنه ليس من واجبنا ولا من مسؤوليتنا التعاون مع مؤسسات الدولة في الحد الأدنى بالتواصل مع جهات الاختصاص للبلاغ حول كل تهاون أو خطأ.

وإذا نظرنا إلى المجتمعات المتقدمة على مستوى العالم اليوم نرى أنها مجتمعات ذات مسؤولية اجتماعية ووطنية، فالأفراد هم الذين يمارسون دور الرقابة والحفاظ على مكتسبات أوطانهم، وحماية منجزاتهم من كل فاسد وعابث أو مستهتر من أفراد المجتمع، ويتواصلون مع جهات الاختصاص من أجل ألا يتحول قِدر اللبن إلى ماء، وأن كل فرد فيه مسؤول عن سلوكه أولا ثم عن غيره ثانيا، فلا يسمح لنفسه بالتجاوز أو اختراق النظام أو الاعتداء على المال العام أو الخاص، ويسهم فيه بكل ما أوتي من قوة من أجل أن يُقدم كوب لبن في قِدر التنمية لا كوب ماء من أجل مصلحته.

فبلادنا اليوم وضعت في أولويات رؤيتها 2030 القضاء على الفساد بكافة أنواعه من أجل التنمية والبناء وسعادة المواطن، وبدأت في بحث ملفات الفساد وأفراده، وأن هيئة مكافحة الفساد ستطال كل يد شاركت أو أسهمت في تعطيل تنمية الوطن وتقدمه، وبقي الدور الأكبر على المواطن نفسه في مواجهة سلوك الفساد الصغير في شخصيته، الذي يُمارسه ولا يشعر بخطره في قِدر اللبن، وهو دائما يردد بأن كوب الماء الذي سوف يسكبه في قدر التنمية لن يؤثر في بناء الوطن.