بعيدا عن التناول العلمي البحت عن أهمية الوثائق والمخطوطات التاريخية وتعريفها وأنواعها وماذا تعني، فهذا ليس مجال حديثي هنا ولا من اختصاصي، غير أني هنا أردت أن أشير إلى أهمية الوثائق بكل أنواعها كرافد من روافد التوثيق التاريخي، ودورها المهم للباحثين والمهتمين بالدراسات التاريخية والأدبية والاجتماعية، وما يمكنها أن تقدمه للدارسين في بحوثهم ودراساتهم عند رغبتهم في رصد ملامح فترات ماضية، وما مرت به من تحولات ومنجزات وأحداث وتطورات، وما يمكن لهذه الوثائق عند توافرها من أن تقدمه من مؤشرات ووقائع وأحداث ومواقف، قد يستفيد منها البحّاثة والجهات العلمية كالجامعات ومراكز البحث ونحوها.

أعرف أن هناك كثيرا من الأسر والأفراد قد يكون لديهم وثائق قديمة ومخطوطات، وصور تاريخية وبعضها تعد نادرة وثمينة، ولديهم أفلام وثائقية، لا يزالون يحتفظون بها لعشرات السنوات، فلا هم لديهم الاستعداد لإخراجها والاستـفادة منها في التأليف وتحويلها إلى مؤلفات تدفع للمكتبات قد تفيد الباحثين وطلاب العلم، ولا هم قدموها لجهات علمية وللدارسين والباحثين الذين يجدّون في البحث عن كل مصدر من المصادر التاريخية قد تزودهم في دراساتهم بمعلومات وإشارات مهمة، سواء كانت بحوثهم تتناول أحداثا تاريخية، أو قضايا اجتماعية، أو عند رصد مسيرة وتطور حركة التعليم على سبيل المثال في منطقة ما، أو عند تناول سيرة رموز وشخصيات وطنية من الشخصيات الرائدة في الوطن.

أقول هذا لأن خشيتي من أن تصل هذه الوثائق والمخطوطات -إن وجدت- والصور والأفلام الوثائقية، إلى «جيل يعقبهم» قد لا يعرف قيمتها التاريخية ككنز معرفي، أو لا يعرف كيف يستفيد منها، فلا يكون أمامه إلا أن يتخلص منها، إما برميها أو حرقها بوصفها عبئا ثقيلا، أو الاستمرار في دفنها في مخازنها حتى تتلف ولا يستفاد منها.

حقيقة لقد كان هذا ما يدور في ذهني، وأنا أستمع للإضاءات الرائعة، والوقفات الجميلة التي ألقاها الدكتور أحمد بن محمد الحمـيّد، عن جده الأديـب «عبدالله بن علي بن حمـيّد» وهو عـلم من أعلام الأدب والثقافة في عسير، واكب أحداثا وعاصر بدايات تأسيس الكيان السعـودي بما قد يعده كثيرون بما دونه أنه أحد شهود عصره، في مسامرة «ثلوثية محمد بن حميّد» الشهرية، التي يقيمها أبناؤه البررة، كاستمرار لنهج والدهم الأديب «محمد بن عبدالله بن حميّد»، رحمة الله عليه، يوم كان يجمع المثقفين والأدباء بمنزله في مسامرات أدبية وثقافية، لطالما كانت تمتع الحاضرين لها، بما يدور فيها من قضايا فكرية وأدبية وثقافية وموضوعات متنوعة، أتذكر أنها كانت تدار بشكل تلقائي وجميل، شجعتني على حضور بعضها، رغم أني لا أنتمي لصف المثقفين والأدباء، فكنت أستفيد معتبرا نفسي تلميذا في مدرسة الحاضرين من روادها، ولعل استمرار تلك المسامرات في بيت الراحل كما كانت عليه، واختيار يوم الثلاثاء موعدا لها يعد «وفاء» غير مستغرب من أبناء الحميّد تجاه أبيهم ومحبيهم.

أختم بشيء أردت قوله في المسامرة، هو أن البحث في سيرة ذلك الرعيل الأول من جيل الرواد، وسبر أغوارهم، وتقديم مسيرة حياتهم بما حفلت به من أحداث ووقائع، أمر جيد وفي غـاية الأهـمية، ويصـب في صالح الأجيال الحاضرة للاستـفادة من سيرة الرواد، للتـعرف عليها وعليهم بما حوته مسيرة حياتهم من تجارب ودروس وعبر وعظات، فحياة جيل الرواد أعدّها مدرسة يجب أن نحضر ويحضر الجيل الحالي فصولها.