«يا عزيزي، أنا مقتنع بأفكار كثيرة، لكني لا أستطيع أن أفعلها أو أعيش بها، بل أشعر بالضيق نتيجة قناعتي بالفكرة ومخالفتي لها في واقعي. تسأله: هل تخالف أفكارك القانون؟ فيجيبك بالعكس، لا تخالف القانون، ولكنها تخالف السياق الاجتماعي المغلق الذي أعيش وسطه». انتهى.

غالب الفصام النفسي الذي يعانيه أي شخص تجاه قناعاته وواقعه ينتج عن هذا التضاد، الذي قد يتحول إلى كراهية لكل الذين استطاعوا تجاوز القنطرة بين قناعاتهم وحياتهم، وأحيانا تتجاوز الكراهية حدود الشعور النفسي إلى حد الطعن في أخلاق المخالفين للنسق الذي اختنق به هؤلاء العاجزين، ليظهر ما يسمى في الفضاء العام «الاستشراف».

في التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، ومنطقتنا تعيش ذروة من التحولات السريعة، يشعر بها الجيل القديم بنوع من الفصام لا يشعر به أبناؤهم ولا بناتهم، لكنها أزمة الارتطام بين المألوف القديم والمعقول الجديد، والتي وضع لها علماء النفس والاجتماع تجارب عدة، أهمها حكاية أولئك الممثلين الذين يشاركون رجلا في تحديد معيار خاطئ، ولكن اتفقوا مع الممثلين على التصويت العلني بأنها صواب، وكانت النتيجة أن الخوف من مخالفة السياق العام أقوى من الدفاع عن صواب الفكرة، وتم العكس بأن وقف الممثلون في آرائهم مع الخطأ على أنه صواب، وكانت النتيجة أن المشارك معهم قد عمد إلى موافقتهم، خوفا من الخروج عن السياق الاجتماعي. طبعاً توجد استثناءات نادرة تؤكد القاعدة ولا تنفيها، والقاعدة هي رهاب الفرد من الخروج على النسق الذي يتوهم بأنه عام.

من يشاهد سطوح المنازل في عزّ أيام الصحوة يرى كل المنازل تقريباً يعلوها «الدش»، وكل الناس تقريبا تتابع مسلسلات القصبي مثلا، وفي الوقت نفسه تعيش حالة تكاذب اجتماعي بإعلان كراهيتهم للفنان ناصر القصبي، الذي لم يتركوا له حلقة واحدة إلا وتابعوها وتناقلوا أخبارها، بل ويعدّون من أعلى مستويات التصويت على مسابقات أجمل صوت غنائي في برنامج المواهب، وفي المجالس العمومية ترى الناس يحوقلون ويتحسبون على هذه البرامج!!

فمن كان يصوّت إذًا؟!

قبل أكثر من سبعين عاما كان من يسير بثوبه في الجنوب بلا حزام يتمنطق به خنجراً أو جنبية، يعدُّ ناقص الرجولة، ومع التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت بدأ البعض يتخلص من هذه العادة، وقاوم كبار السن هذا التغيير، رغم ذوبان تقاليدهم التي ألفوها، ولم يبق منها سوى مظاهر فلكلورية لا معنى لها في الواقع الحي الآمن المستقر، ومثلها موقف بعض المناطق من لبس الغترة البيضاء... إلخ.

تربكنا وسائل التواصل الاجتماعي، ما دمنا نستخدمها بلا إدراك كامل لحقيقة اللازم الاجتماعي المرتبط بها، فابنتك وابنة عمك وخالتك وبنات جماعتك وقبيلتك، كلهم معك في وسائل التواصل، وما يزال يذكر «الكاتب» أحد الطيبين زاره في المنزل ناصحًا قبل قرابة عشر سنوات، ليحذره من وجود حساب في وسائل التواصل لزوجته، وأن هذا لا يجوز ومخالف لعاداتنا، وعندما أخبر الكاتب زوجته بذلك ضحكت، وقالت: هل تعرف الاسم الفلاني الذي طلبك لقبول صداقته في حسابك، فأجاب «الكاتب»: لا، لا أعرفه، ولكني قبلته ضمن من أقبلهم في فضائي العمومي، ما داموا يلتزمون أدب الحوار، فردّت بسخرية: إنها ابنة صاحب النصيحة الساذجة.

لا تقلقوا من التغيير، هل نسيتم كم حصل فيكم من تغيرات طوال عقود مضت؟، هل نسيتم ارتباككم من جوال الكاميرا؟، أم نسيتم سخف قلقكم قبل 50 عاما من الهاتف المنزلي، إذ يضعه بعض آبائكم في صندوق خشبي لا يملك مفتاحه سوى صاحب المنزل؟.

التغيير سنة الحياة، والأذكياء فقط لا يسمحون للتاريخ أن يسبقهم أو يتجاوزهم، أما الكسالى والخائفون الجبناء، فيعيشون النواح على الماضي الذي لن يعود، كأنما يريدون كل ما حولهم مقبرة مليئة بالأموات، ويتحول كل من في المقبرة إلى حراس أضرحة لعادات الأب الفلاني وتقاليد الجد الفلاني، متناسين تلك الحكمة لذاك الشاب اليتيم الفقير الذي تفاخر أمامه أحد أقرانه بقوله: مات أبي وترك لي إرثا كبيرا، فأجابه الشاب اليتيم بقوله: أما أنا فمات أبي وترك لي الحياة بكل ما فيها.

فكونوا أيتاما أغنياء بالحياة، خيرا من أن تكونوا فقراء لما ورثتموه، سجناء جغرافيا آبائكم وأجدادكم، تلك أقصى حدودكم في الحياة. أما الأحرار فدائما طليعيون، أصحاب ريادة حقيقية فكرا وفعلا، وللبقية مضغ عصب الوقت بصابون الكلام.