قبل أن نتعامل مع أسئلة الحياة الكبرى مثل: ما الذي أعيش من أجله؟ الدنيا، الآخرة، الأسرة، السعادة، التسلية، المركز، المال، الشهرة؟.. والقائمة تطول لتنوع البشر، إننا نحتاج كبشر إلى أن نعرف أنفسنا، أن نعرف ما نعرفه وما لا نعرفه، ما نؤمن به وما لا نصدقه، ما نمتلكه من مهارات وما لا نمتلكه، المهم قبل أن نجيب يجب أن نفكر، فالله -سبحانه وتعالى- دعانا إلى التفكير، وحاور عقولنا في كثير من آيات القرآن الكريم.

الحكمة لا تأتي من فراغ، وأحد أهم أجزاء رحلة البحث هو احترام عمق وأهمية الأسئلة التي تطرح في دواخلنا، أسئلة قد نحتاج إلى إعادة النظر فيها مع تقدمنا في العمر، لأننا يجب ألا نتوقف عن البحث والسؤال، كما يجب أن يزعجنا حقا جهلنا بحيث يدفعنا إلى البحث دائما عن الحقيقة والحكمة.

ما دفعني إلى هذه المقدمة مقولة قرأتها مؤخرا تقول: لم أصادف في حياتي شخصا قويا كان له ماض سهل! حقا ألا ننمو من التجارب والنضال؟ أليس من المعروف لدى كثير أن الله لا يحمّلنا ما لا طاقة لنا به، لأنه خالقنا ويعرف قدراتنا، ويعرف ما يجري في عروقنا، ومن المفروض أن نتحمل المعاناة ونستخدمها للنمو، ونسير في الطريق السليم، لا أن ننحرف ونتذمر ونتعامل مع التحديات بسلبية تؤدي إلى هلاكنا.

القوة لا تأتي بلا ثمن، لأن القوة تُبنى في داخلنا ولا تأتينا من الخارج، لا أحد يستطيع شراءها لنا، أو التكرم بها علينا، أو توريثها من خلال وصية! القوة تأتي من التجارب والتحديات.. من التغلب عليها، وحين تحرم إنسانا ما من تجارب الحياة العادية من خلال الإسراع إلى تقديم المساعدة في كل مرة يسقط فيها أو يتعثر، فإنك تحرمه من بناء هذه القوة، ومن تعلّم كيفية إنقاذ نفسه!

لربما سمعتم بقصة الفتى الذي كان يراقب فراشة وهي تحاول جاهدة الخروج من شرنقتها، حينها أشفق عليها وهي تناضل، فأحضر مقصا ووسّع الشق في الشرنقة مما مكن الفراشة من الهروب بسهولة، ولكن الذي حدث أنه بمساعدته لها حكم على هذه المسكينة أن تعيش بأجنحة غير كاملة النمو، وعليه لن تكون قادرة على الطيران بأجنحة ضعيفة! لقد كانت بحاجة إلى الجهد والنضال من أجل تجهيز أجنحتها للطيران. ولهذا في المرة القادمة التي تسرع فيها إلى إنقاذ شخص ما من المشقة (بدافع الشفقة أو حتى الذنب بأنك تمتلك القدرة وهو لا يمتلكها)، دع هذه الحكمة تذكرك بأنك يمكن أن تضره بدلا من أن تنفعه! لأنك عندما تتركه يخوض معاركه بنفسه تكون قد أتحت له الفرصة من أجل بناء تلك القوة التي يحتاجها فيما بعد في حياته، إنها خبرة لا يمكن أن تنسى أو تؤخذ منه أبدا، واليوم أنا ممتنة لكل مشقة ولكل تحدٍّ ولكل معركة مررت بها، لماذا؟ لأن كل ذلك كان سببا في أن تبني تلك التجارب في داخلي قوة تظهر إلى السطح في كل مرة أقابل فيها تحديا جديدا، وأنا أفضّل أن أتعلم من شخص مر بتجارب مئة مرة على أن أتعلم من شخص لم يواجه صراعا واحدا في حياته، لماذا؟ لأنه من خلال الصعوبات والتحديات تأتي المعرفة والخبرة، إنها دروس في الحياة تدفعنا كي نصبح أفضل حالا مما كنا عليه قبلها.

نعم لم أصادف في حياتي شخصا قويا كان له ماضٍ سهل، كما لم أسمع عن بطل لم يفشل في وقت ما في بداية حياته، ولم أقابل شخصا حكيما لم يرتكب حماقة أو خطأ ما في وقت ما خلال مسيرته المعرفية، وعليه أنصح بأن تمتلك تحدياتك وإخفاقاتك وأخطاءك، وأن تسمح لها بأن تصنعك لا أن تحطمك، قم بذلك لكي تشعر بالسلام، قد لا يكون ظاهرا آنيا، ولكنه ليس ببعيد، وقد يكون قاب قوسين أو أدنى، ولا توجد وسيلة للوصول إلى ذلك السلام بلا معاناة أولا حتى ولو كانت بسيطة، فما بالك إذا كنت تواجه عواصف!.

لكن لنتذكر أنه ليس كل من يواجه عواصف من التحديات والضغوط سوف يتكيف ويتعلم، لماذا؟ لأن هناك أسبابا عديدة، منها أن هناك من يفتقر إلى القدرة على التحمل، ومن يتعب من النضال، ومن يرغب في كل سهل بدون بذل أي مجهود، ومن يعيش بدون هدف، ومن ليس لديه صبر أو بصيرة. للتوضيح هناك مثال شائع عن ردة فعل من أشياء حين وضعها في وعاء من الماء المغلي، فإذا وضعت جزرة لمدة قصيرة أصبحت لينة، وإذا وضعت فيه بيضة أصبحت صلبة مع مرور الوقت، ولكن إذا وضعت كيسا من الشاهي فإنه سوف يغير الماء. نفس الماء ونفس الوعاء ونفس الظروف، لكن النتائج اختلفت، فالجزرة دخلت قوية وخرجت ضعيفة، والبيضة دخلت طرية وخرجت صلبة، والشاهي دخل جافا لكنه حول الماء إلى شيء جديد ومفيد، المغزى هنا أن الحدث والظروف نفسهما لهما تأثيرات مختلفة باختلاف الأشخاص، الفارق ليس هو ما في داخل الوعاء، بل ما في داخل الشخص وهو يعيش خبرة الماء المغلي، وعليه نستطيع أن نقول: إن هناك مواجهة تبني ومواجهة تضعف، وكل ذلك يعتمد على المتلقي.

الآن جاء دورك أيها القارئ، فكّر قليلا، واسأل نفسك: ما التحديات التي جعلت في داخلك نقاط قوة؟ وما الصعوبات التي مهدت لك لكي تتمكن من استغلال فرص ثمينة، لم تكن لتفوز بها لولا تلك القوة التي نمت وتطورت وصقلت ذاتك؟ اعلم أن تلك الخبرات هي التي سوف تعتمد عليها حين تبني مصداقيتك وأنت تقدم معلوماتك للمشاركة في بناء غيرك، لأنك أنت الذي سيُصغى إليه، وليس ذاك الذي يظهر في الساحة وينثر علينا آراء فارغة لا تعتمد على المصداقية، أو حتى تقف على قاعدة صلبة حافلة بالإنجازات بعد مرور بالتحديات الصعبة!.