مع بداية الثورة الصناعية، واختراع الآلة البخارية وتطورها السريع، ونشوء مجتمعات حديثة تزدحم بالمصانع الضخمة التي تقوم على تقنيات حديثة وتوظف قوى عاملة كبيرة ومنظمة، تزامن مع نشوء هذه المجتمعات الحديثة المسماة بمجتمعات السوق (market society)، هجرة جماعية لأهالي الأرياف الذين هجروا حقولهم ومزارعهم وتوجهوا نحو المدن الصناعية.

كان الناس يزرعون وينتجون غالب احتياجاتهم اليومية للاستهلاك المنزلي المباشر، فقد كان دور الأسواق هامشيا ولم يكن الناس يعتمدون على الأسواق كما يحدث اليوم في المجتمعات الحديثة، وكان كلا الجنسين -الرجل والمرأة- يعملان في ممتلكات العائلة ضمن دائرة اقتصاد بسيط غير معقد يحمل قيمه ومبادئه المتوافقة مع تنظيمه البسيط.

ولكن مع نشوء المصانع الضخمة التي استقطبت كثيرا من الأسر للعمل ضمن سياقها الاقتصادي والاجتماعي ووسط مدنها المكتظة بالسكان، انتهى دور المنزل كمقر للإنتاج، فنظام المصنع المنتج للسلع بكميات هائلة أدى إلى الفصل النهائي بين المنزل وعملية الإنتاج، وهذا ما أجبر العمال على ترك حقولهم ومزارعهم والتخلي عن أسلوب الإنتاج الذاتي، مما فرض عليهم نمط حياة جديدا يعتمد اعتمادا كليا على الأسواق وما تنتجه من سلع وبضائع، وفرض عليهم المشاركة في نظام الاقتصاد الجديد ودورته، وربط مصيرهم ومصير أسرهم بسوق العمل وما يندرج تحته من قوانين العرض والطلب.

أسهمت هذه التحولات في تشكيل مجتمعات السوق، وأصبحت حياتنا اليومية تتمحور بشكل كبير حول الأسواق، وأصبح تنظيم اقتصادنا يؤثر إلى حد بعيد في حياتنا وقيمنا ونظرتنا للحياة والناس من حولنا، بل إنه فرض علينا مراجعة ومحاكمة كثير من قيمنا الموروثة، فالأسواق صارت ذات أهمية مركزية فيما يتعلق بتنظيم المجتمع المعاصر.

إن الاقتصاد اليوم لم يعد نظاما منفصلا ومستقلا عن القوى الاجتماعية والثقافية، فصعود مجتمع السوق كان على الدوام جزءا من عملية تغيير فكري وثقافي واجتماعي وديموجرافي، والتكامل المتزايد في العمليات الاقتصادية التي أصبحت أكثر تعقيدا وتداخلا من السابق، أسهم في إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية وتفكيك روابط المجتمع التقليدي وقيمه ومبادئه الدينية والاجتماعية، مكرسا بذلك الطريق نحو ظهور المجتمع المدني.

والمجتمع السعودي أحد هذه المجتمعات التي تعرضت للصدام الدائم ما بين قيمها التي تحملها، سواء كانت قيما دينية أو أعرافا اجتماعية، وبين قيم مجتمع السوق، ولعل مفهوم الاختلاط يعد واحدا من ساحات الصراع بين قيم المجتمع التقليدية وبين قيم السوق، فالاختلاط بين الجنسين هو وليد مجتمع السوق، وأحد إفرازاته ومظهر من مظاهره الفريدة، ومن العبث البحث عن حالة شبيهة له في مجتمع صدر الإسلام أو أي مجتمع قديم آخر، في سبيل تحريمه أو إباحته.

وهذا ما جعل مفهوم الاختلاط من أكثر المفاهيم إشكالا، نظرا لانعدام مثيل له في العصور السابقة، وجعله عرضة لكثير من التأويلات والتفسيرات ولوي أعناق الأدلة في سبيل إباحته أو تحريمه، فضلا عن أن الاختلاط في بيئة العمل له مستويات متعددة تبدأ من الاختلاط العابر في الأماكن العامة مثل الأسواق والمطارات والمستشفيات، وهذا لا خلاف على جوازه، وتنتهي بالاختلاط الذي يصل مستوى الخلوة التامة التي نصت الأحاديث النبوية على تحريمه صراحة، وهذا ما زاد المسألة تعقيدا، نظرا لتعدد مستويات الاختلاط وتداخلها، والتحرش في بيئة العمل أمر وارد في كل مجتمعات العالم بلا استثناء، يزداد وينقص مع اختلاف مستويات الاختلاط، ومن هنا بدأت قيم مجتمع السوق تعيش حالة صراع مستمرة مع قيم المجتمع التقليدية.

إن حرب القيم التقليدية ضد قيم مجتمع السوق كانت حربا خاسرة على الدوام في كثير من المجتمعات، ولكنها في المجتمع السعودي استطاعت المقاومة وخوض التحديات والمعارك الطويلة مع قيم التحديث التي تتبناها الاقتصادات الحديثة، فقيم المجتمع التقليدية فرضت أحيانا على سوق العمل تنظيم آلية الفصل بين الجنسين في أماكن العمل وبعض أماكن الترفيه والتسوق، وهذا سيؤدي بطبيعة الحال لزيادة تكاليف التشغيل، مما يعني زيادة الخسائر التي يتكبدها سوق العمل والتي ستزداد بصورة طردية مع زيادة معدلات الفصل بين الجنسين، وهذا ما يرفضه سوق العمل الذي يضع مسألة الربح والخسارة فوق كل اعتبار، وتقليل تكاليف التشغيل وما تتطلب من زيادة في الفعالية والإنتاجية هو قضية ذات أولوية في فلسفة الاقتصاد الحديث.