يذكر أحد المثقفين في ندوة أن جيل الشباب الحالي لا يهتم بالسياسة ولا يتابع الأخبار، وأكثر ما يهمه هو الترفيه، وأنه جيل غير سياسي نهائيا، فهل هذا صحيح؟

بالمعنى السياسي الكلاسيكي للدول الشمولية فهذا صحيح، وهذا ما أربك دول الربيع العربي التي كانت أجهزتها الأمنية ترصد وتراقب كل الكتل السياسية والحزبية، لتتفاجأ بشباب مختلفي التوجهات لا رابط بينهم يعربون عن تذمرهم، ليملؤوا الشوارع فجأة بدرجة أذهلت أكثر الحركات السياسية تنظيما وتنسيقا (حركة الإخوان المسلمين)، لكن هذه الحركة سبقت كثيرا من الحكومات في التكيف مع هذا الطارئ الجديد كفاعل سياسي (أناركي)، وركبت على ظهره لتحقق لنفسها من المكاسب ما كان يحتاج إلى عقود، طبعا وجدنا البعض ينظر للربيع العربي من خلال (نظرية المؤامرة) كي يتخلص من أعباء التفكير والتفكيك، فمخابرات الغرب والشرق مثلها مثل حركة الإخوان المسلمين كلها في مجموعها شكلت معطيات تمنح الأدلة لمن أراد الاعتقاد بأنها مؤامرة، لكنها في الحقيقة ردات فعل سريعة على واقع طارئ كانت علاماته واضحة في تقارير التنمية العربية وفي (واقع القمم العربية)، كإرهاصات لما سمي الربيع العربي وما وصلت إليه من انسداد سياسي على مستوى القيادات، وهذا يعطي مؤشرا خطرا حقيقيا على مستوى القاع الذي تكفيه شرارة صغيرة كبوعزيزي، ليشتعل الشارع العربي من تونس حتى صنعاء. كيف يكون الجيل الجديد غير سياسي وغير مهتم بالأخبار، وهو نفس الجيل الذي رأيناه في داعش والقاعدة لأحداث صغار قتلوا أقاربهم قبل أن يقتلوا أنفسهم في مناطق الصراع الملتهبة، ثم عاد بعض هؤلاء إلى بلدانهم ليصطنعوا أزمات داخلية، وصولا لحراسة المساجد والحسينيات، فهل تجفيف منابع الإرهاب كافٍ لانتهاء المزاج السياسي لجيل الشباب؟، يقول هذا المثقف: إن الجيل يريد ترفيها ولا يريد أخبارا، وأنه لا يشبه جيله القديم المولع بالحركات السياسية التي عرفها في حياته، وما زلنا نعيد السؤال: هل يقصد جيلا غير جيل الصغار الذين رأيناهم ينضمون لداعش والقاعدة في نشرات الأخبار، أم هم نفس الجيل؟

الإجابة باختصار شديد نفتش عنها عند علماء الاجتماع بشكل غير مباشر، وربما أكثر ما نستثمره في هذا المقال ما نقله لنا عبدالإله فرح في (آلان تورين ودينامية السوسيولوجيا)، حيث أوضح تورين أن هناك طريقين في علم الاجتماع: الأول (سوسيولوجيا النسق بدون فاعل) وتتمثل في (الوظيفية، الماركسية، البنيوية)، والطريق الثاني: سوسيولوجيا الفاعل بدون نسق (التفاعلية الرمزية، الفردانية المنهجية)، واختار تورين بناء سوسيولوجيا تجمع بين الطريقين، بين الفاعل والنسق. فيقترح إعادة تعريف السوسيولوجيا باعتبارها دراسة للفعل الاجتماعي، باعتباره فعلاً (ذا تاريخية) تتحدد توجهاتها بالنظر إلى مجموع الظروف الاجتماعية، فالحقيقة الاجتماعية في شموليتها يجب أن يتم تحليلها عبر مجموعة من أنساق الأفعال لامتلاك التاريخانية عبر الصراعات والتناقضات بين الطبقات الاجتماعية، حيث يرى أن النسق الاجتماعي الشمولي المهيمن سينتهي، بينما الواقع الاجتماعي يرتكز على ثلاثة مفاهيم رئيسية (التاريخانية، الحركات الاجتماعية، الذات)، وهي مفاهيم مترابطة فيما بينها.

ما يعنينا واقعنا الاجتماعي السعودي الذي نختصره بالقول: إن النموذج الثقافي المطروح والذي من خلاله يتحرك الفاعلون الاجتماعيون يتكئ في أحد أوجهه على الترفيه كأحد أنماط الحداثة التي تتقاطع مع وسائل التواصل التي تعزز المزاج الفرداني، لإنتاج حركات اجتماعية، والحركات الاجتماعية تعرَّف بأنها (فعل تنازعي بين وكلاء الطبقات الاجتماعية المتصارعين من أجل مراقبة نسق الفعل التاريخي)، ووكلاء الطبقة المهيمنة في العقود الثلاثة الماضية كانوا رموز الصحوة التي هيمنت وسيطرت على نسق الفعل التاريخي، والتي يمثلها حركيا الإخوان المسلمون وابنتهم السرورية، ليهيمنوا عبرها على الفعل التاريخي بالمعنى السياسي الصرف وصولا إلى (إيران نموذجا).

الآن الدولة تقود الفعل التاريخي عبر ثلاثة مبادئ وفق مصطلحات تورين، وهي (مبدأ التعارض)، وذلك عبر تحديد الخصم الذي يتعارض مع أهداف الحركة الاجتماعية وتوضيحه بشكل موضوعي، وهو ما أشار إليه ولي العهد بالنص الصريح (الصحوة.... وسنعمل على تدمير كل تطرف يواجه ما نمثله من إسلام معتدل متسامح وسطي منفتح على العالم ومتعايش معه.. والحق معنا)، كإعلان تاريخي سابق لما نراه الآن من فعل اجتماعي متناغم، شكك في القدرة على تحقيقه كثيرا، ممن وصفوا الإخوان المسلمين ومخرجاتهم السرورية الصحوية بأنها (سرطان في جسد الوطن) يصعب الشفاء منه، ولكن تحققت المواجهة وباقتدار مذهل.

المبدأ الثاني: مبدأ الكلية، وهو من أهم المبادئ عند تورين، حيث يفترض أن الحركة الاجتماعية مكونة من وعي جمعي وشمولي، فلا تكون أقلية أو فردية مما يسهم في التأثير على الرأي العام، وهذا مشاهد وملموس بجدارة إلى درجة أن الرأي العام السعودي نفسه يقف مع قيادته في هذه الحركة الاجتماعية باستثناء جيوب معارضة كامنة لا تشكل خطرا ولا فارقا في حركة التاريخ.

المبدأ الثالث مبدأ الهوية: إذ يتعين على الحركة الاجتماعية أن تعلن عن هويتها ومن يمثلها، وقد أعلنت الحركة الاجتماعية عن نفسها بقيادة ولي العهد عبر رؤية (2030)، وبتفاصيل شاملة لنمط حياة الفرد والأسرة وبناء المجتمع في برنامج (جودة الحياة) لتحقيق رؤية 2030.

وقد تحققت النتائج حتى الآن بشكل إيجابي لأنها تتناغم مع إشكالات الجيل الجديد في هذا الزمن المفتوح، فالجيل الجديد وجد في الرؤية ما يطمح إليه، وهي (مقاومته للسيطرة) ويحقق له (حب الذات)، حيث يطرح الفرد حريته باعتبارها الشرط الرئيسي لسعادته وهدفا مركزيا لحياته، والثالث: الاعتراف بالآخرين كذوات فاعلة، ولهذا فقد اتجهت الدولة بدعم القواعد السياسية والقانونية التي تمنح العدد الأكبر من الناس أكبر الفرص الممكنة التي تمكنهم من العيش كذوات حرة ومستقلة. هل ما طرح أعلاه هو ما نص عليه آلان تورين؟ بالطبع هو ما يمكن فهمه ويتقاطع مع واقعنا السعودي المتميز. وبقي أن أشير إلى أن الفاعل الاجتماعي يجب أن يكون واسع الصدر على واقع جديد يخرج من خلال هذه التغيرات، وهو واقع ليس فيه داعش أو قاعدة، وليس فيه تفجيرات المحيا ولا احتلال الحرم، بل واقع طبيعي ما دام في حدوده التفاعلية الطبيعية كظواهر تسير ضمن إطار المرحلة التاريخية التي يقودها ولي العهد، ونقصد بذلك ظهور حركات النوع والحركات النسائية التي أشار تورين إلى أنها من أهم مظاهر الزمن الحداثي.

أخيرا هل ننسى فضل قيادتنا الرشيدة أن كانت قائدة ثورتنا الاجتماعية في وجه الإرهاب والتطرف. شكرا خادم الحرمين، شكرا ولي العهد المفدى، شكرا لكل جندي مجهول في وطننا العظيم (المملكة العربية السعودية).