غالبا ما يُعرِّف الناس أنفسهم كأعضاء في مجموعات، مثل المفكرين، المثقفين، الاتحاديين، النصراويين، الهلاليين، المحافظين، التقدميين، الديمقراطيين، الليبراليين... إلخ، وللحفاظ على احترام الذات وتيسير مختلف أشكال التنسيق الاجتماعي يسعى كثير من الناس إلى إثبات شرعية وتفوق المجموعات التي ينتمون إليها، وهذه الدوافع يمكن أن تقودهم إلى تشويه سمعة المجموعات التنافسية، والمعروفة أيضا بالمجموعات الخارجية، أي كل من هو خارج دائرتنا وداخل الدائرة المنافسة أو دائرة أخرى لها توجهات لا تتفق مع توجهاتنا!

ومن المظاهر الشائعة لانحياز المجموعات الداخلية، الصورة النمطية لأعضاء المجموعات الخارجية، بمعنى السمة الشائعة التي نلصقها بأعضاء المجموعة الخارجية، وهي أن جميع أعضاء تلك المجموعة لا يفكرون، ولا يتعاطفون مع القضايا المهمة، عكس أعضاء من ينتمي إلى الدائرة التي ننتمي إليها، فنحن غالبا ما نكون متعاطفين ونتميز بالديناميكية والحيوية والذكاء.

ما يحدث اليوم أننا وبتواتر مستمر نقوم -بطريقة أو بأخرى- بإجبار الناس على الدخول في دائرة تفكيرنا أو مجموعاتنا، من جميع النواحي: السياسية والدينية والفكرية والثقافية... بل تحسب الأمور بثنائية بسيطة، إما أنك معي أو ضدي، إما أنك تتفق تماما أو تكون جاهلا، رجعيا، سطحيا، غير متدين، أو حتى لا تنتمي إلى جنس البشر. لقد نُصبت المخيمات، والافتراض في عالمنا اليوم هو أنه يجب أن تتناسب مع واحدة منها.

لكن ماذا عن معسكر أولئك الذين لا يتناسبون تماما أو يتوافقون بشكل تطابقي مع الخيارات الثنائية؟. ماذا عن أولئك الذين يرون ويقدرون الجدوى من تضارب وجهات النظر، والذين يعيشون مع التوتر الذي يُخلق جرّاء الشد بين المعسكرين ولا يرغبون أن يكونوا جزءا منه، والذين يتعاملون مع القضايا من خلال رؤيتها من عدة زوايا، والذين يعترفون بالتعقيد، ولكن يدركون أهمية تنوع المصادر للتوصل إلى الحل أو الحكم؟ هل هناك متسع لنا، هل لدينا صوت، أليست مقاربتنا واقعية وتستحق الأخذ بها واعتمادها؟ إنه معسكر أولئك الذين لا يتسقون أو يتوافقون بشكل واضح وصريح مع الخيارات الثنائية؟ أولئك الذين يرون الجدوى في وجهات النظر المتضاربة، والذين يعيشون مع التوتر الذي يخلق من الشد بين الفريقين، والذين يتعاملون مع القضايا المعقدة بالتدرج وفي الوقت ذاته يدركون مدى صعوبتها، هل هناك متسع لنا، هل لدينا صوت، هل طرقنا ومقارباتنا للمواضيع المختلفة مشروعة؟

في عالمنا المستقطب، حين نتعرض للحديث عن شخصية معينة، أنت إما أنك معها أو ضدها، إما أنها لا تستطيع أن تخطئ أو أنها لا تستطيع أن تقوم بأي عمل مجدٍ أو صحيح، وعليه يجب عليك إما أن تتقبل وتحب أو ترفض وتكره، بالطبع بناء على رؤية المجموعة أو الدائرة التي من المفروض أنك تنتمي إليها أو التي تحاول أن تنتمي إليها، أو التي تعتبرك منها قبل أن تتقدم أنت وتختار.

وهنا يظهر السؤال مرة ثانية: ماذا عن أولئك الذين يشعرون بالامتنان الشديد للخير الذي قامت به هذه الشخصية، التي هي قيد النقاش، ولكن يشعرون بالقلق والانزعاج في الوقت ذاته من لهجتها أو طريقة تعاملها، أو خطورة بعض السلوكيات التي تنتهجها أو سلبيتها نحو بعض القضايا التي تحتاج إلى البت فيها أو سرعة الإنجاز؟ ألا يمكن أن يحافظوا على وجهات نظر أكثر دقة واقترابا من الواقع، بحيث لا يدعمون أو يرفضون تلك الشخصية بالمطلق، ولكن يمتلكون مشاعر مختلفة تجاه أفكار أو سلوكيات أو حتى أجزاء من سماتها؟

في حين أن كثيرا من الناس يفضلون الانقسام والتجزيء، هناك شيء جميل اسمه التنوع! كما هو الحال مع الاستثمارات المادية بالنسبة إلى التجار وغيرهم، حيث يمكن تحصيل عائد أفضل، والتنوع في طرق التدريس من أجل خدمة الفروق الفردية والتوصل إلى مستويات أفضل من المخرجات التعليمية، والتنوع في الخبرات الذي يصقل ويدعم بناء الشخصية، كذلك الأمر بالنسبة إلى الاستثمارات الفكرية: يجب تنويع التعلم والتعرض إلى وجهات النظر المختلفة مع الانفتاح العقلي للاستيعاب، وبالتالي يكون لدى الفرد ليس دائرة واحدة ليرى من خلالها، بل دوائر متداخلة ترفعه إلى مستويات فكرية أوسع وأعلى، وربما أدق بما تقدمه من معلومات ورؤى وحقائق ربما كانت غائبة عنا.

يحق للناس ألا ينتموا أو أن يتناسبوا تماما مع أي مجموعة وألا يُقحموا داخل أي دائرة، وألا يصطفوا أو يتوافقوا مع نماذج مسبقة الرسم والتحديد، ولكن قبل هذا وذاك يجب ألا يكون المرء زائد الثقة بوجهة نظره، فالثقة المفرطة تؤدي إلى العناد والتكبر إن لم تغلق العقل أصلا وتمنعه من النمو والتطور. فهناك فرق بين وجود قناعات والدعوة إلى وجهة نظر معينة أو اتجاه معين لسلوكيات أو سياسات محددة، وبين الثقة المفرطة في أنها الطريقة الوحيدة لرؤية الأشياء أو القيام بها. نعم كن قويا فيما تؤمن به، وتابع وادعم، ومثّله في سلوكياتك وقراراتك، بل كن مقتنعا في حججك ودفاعك عنها، لكن تذكر أن الأهم هو أن تدع الآخرين يرونه بطريقتهم، وأن تصغي إلى رؤاهم، فهذا سوف يضمن لك الاطلاع على أكثر من منظور كي تفكر وكي تتعلم، وقد تعيد صياغة ما لديك لتصل بشكل أسرع، وتفهم بأسلوب أفضل، وتؤثر بطريقة أدق وأعمق.

إن من يرى نفسه خارج الدوائر والمجموعات يحتاج لأن يُسمع صوته، يحتاج ألا يُسحب إلى هاوية الثقة المفرطة، والثنائيات السطحية من المواقف والأحكام، فقط لأنها أسهل أو أكثر ملاءمة كي يتم التقبل والضم إليها! يجب أن نقف مع من يؤمنون بالفروق والتعقيدات أو التركيبات المختلفة لأي رؤية أو قضية، وما زالوا يرون ميزة وجهات النظر المتضاربة، حتى لا يتراجعوا ويتم خنق أصواتهم من قبل أبواق وسائل التواصل الاجتماعي، الذين احتلوها وعاثوا فيها تنمرا وصراخا! نعم في يوم من الأيام سنصمت جميعا عندما يقدر الله لنا ذلك، عندما تحضر ساعة كل واحد منا وينتهي دوره ورسالته، وحتى ذلك الحين دعونا نثري الحياة.