في إحدى زياراتي السابقة للقاهرة، التي تعد واحدة من أهم عواصم الثقافة في العالم العربي، وأثناء تجولي في شوارعها جذبت انتباهي لوحة دعائية ضخمة تتوسط أحد شوارعها الرئيسية، تحوي إعلانا لأحد منظفات الأرضيات، تتوسطه جملة شهيرة في الشارع المصري وهي: «نظافة ما حصلتش والقطنة ما بتكدبش». ظهرت هذه الجملة الشهيرة بالتلفزيون المصري في فترة التسعينات مع شخصية (مدام نظيفة)، وشكلها المهندم وملابسها المرتبة، وهي تمسك القطنة وتمسح بها الزجاج والأرضيات وتقول: «القطنة ما بتكدبش» كشهادة على قوة التنظيف.

ظلت عبارة مدام نظيفة «نظافة ما حصلتش والقطنة ما بتكدبش»، ترافقنا من شارع لشارع، فقد امتلأت شوارع القاهرة بدعاية المنظف السحري، كظاهرة متعددة الجوانب تستحق الدراسة والتأمل وبحث العلاقة بين اللغة والتواصل الإعلاني، وهي ظاهرة لا تقتصر على مدينة القاهرة فحسب، فاليوم تنتشر الإعلانات التجارية التي تحاول أن تكرس اللهجة العامية في وسائل الدعاية والإعلان في كل عواصم العالم العربي، وفي الرياض اليوم تحاصرنا الإعلانات التجارية المكتوبة بلغة رديئة ومشوهة، مثل إعلانات مطاعم البيتزا وشركات الاتصالات الموزعة في كل شوارع الرياض الرئيسية والفرعية.

من خلال وسائل الدعاية والإعلان يمكن أن نتعرف على وضع اللغة العربية في الاقتصاد وفي الإدارة وفي السياحة، وبالتالي نتعرف على وضعها في المجتمع، ففي مجال التسويق باتت الأسماء العربية تتقلص أمام سطوة المسميات الأجنبية، وأصبحت وسائل الدعاية والإعلان تتبنى اللهجات العامية على حساب اللغة العربية، ومن المؤكد أنها بذلك تهدم ما تقدمه المدرسة من مسعى لتعليم اللغة العربية بالشكل السليم.

وضع اللغة العربية في مجال الدعاية والإعلان يعكس وضعها في مجالات أخرى، وقد يكون نتيجة له، فوسائل الإعلان لها تأثير خطير جدا في ترسيخ الوضع اللغوي في مجتمع ما، فهي لا تروج للمنتج التجاري وحسب، بل تروج للغة أيضا، فخطورة وسائل الدعاية والإعلان تتجلى في أنها تسهم في تسويق وضع لغوي معين على نطاق واسع ودون حدود، مستعملة كل الوسائل والقنوات السمعية والبصرية، إنها تكره المتلقي على استهلاك اللغة المستعملة حتى لو لم يستهلك المنتج التجاري.

وسائل الدعاية والإعلان هي إحدى وسائل الاتصال بين المنتج والمستهلك، تلعب دورا مهما في صناعة الرأي العام وتشكيل الثقافات والعادات، دورها لا يقتصر على استهلاك المنتجات، بل يتعداه إلى استهلاك اللغة والثقافة، وفضاء الإعلان على المستوى الثقافي لا تحده حدود ولا تقف أمام طوفانه السدود.

للأسف، أغلب الشركات التجارية تسعى إلى تحقيق الأرباح حتى لو كان على حساب التكوين اللغوي والتربية والتعليم، والأطفال هم الأكثر تأثرا بالإعلان والأكثر انجذابا وتفاعلا مع رسائله الثقافية، فهم ما زالوا في طور التعلم وتكوين الملكة اللغوية، فهذه الإعلانات المنتشرة في محيط الطفل ستؤدي إلى تفاقم إشكالية الازدواجية بين العامية والفصحى، وتشوش بل تفسد ما تسعى المدرسة إلى تثبيته من نسق لغوي سليم.

ومن أجل تفادي هذا المحيط اللغوي غير الصحي يجب أن تأخذ اللغة العربية مكانها الطبيعي في وسائل الإعلان من أجل تنميتها وتطويع نظامها، لتمكينها من أداء وظائفها التعبيرية في مجالات الحياة، وهذا يتطلب تدخل كل مسؤول من أجل أن تكون العربية لغة تعليم وإدارة واقتصاد، وبالتالي لغة دعاية وإعلان، حتى تكتسب وضعها الطبيعي في المجتمع، فمجال الدعاية والإعلان -لا شك- يعدّ من أهم المجالات في دعم اللغات وتطويرها وتنميتها.