بقراءة العنوان وحده سيحكم البعض أن المقال متطرف وإقصائي وصدامي ومتعصب ويعيش كاتبه في عصرٍ تولى إلى غير رجعة، وآخرون سيعتقدون أن الكاتب يسخر من نفسه أو منهم.

وباعث حكمهم هذا أن السلفية تكالبت عليها دعاوى السوء وادِّعاءات الباطل من كل مكان، فالكل -وأستثني بلادنا- يحاربها بطريقته إما اعتقادا وإما فقها وإما كليهما.

فإذا تسامج متفيهق وقال: إن السلفية قد أقفت إلى غير رجعة، وإن أهلها قد تخلوا عنها ولم يعد ينتحلها إلا أفراد عمَّا قليل يذهبون، فهو يتعامى عمدا عن الحرب الشعواء التي تُشَن عليها حتى حارت الأقلام التي تدافع عنها، ولم تعد تدري عند أي رِيْعٍ تقف لتصد غثاء السيل؟

أعند اليهود والنصارى، أم عند الرافضة والمتصوفة والأشاعرة والمعتزلة وسائر أهل البدع والخوارج؟ أم عند الليبراليين وأدعياء التنوير وأشتات المثقفين الذين يطيرون ويهبطون مع كل موجة؟

أضف إلى هؤلاء جميعا حكومات الشرق والغرب من دول الكفر ودول الإسلام، إما عن طريق الإعلام وإرسال الشبهات التي لا حصر لها، وإما عن طريق المؤامرات الدولية والكيد الكُبَّار الذي لا يُجارى ثم يأتي أمثال هذا ليقول: أين السلفيون، ذهب السلفيون، مات السلفيون!.

نعم إن السلفية اليوم في وضع صعب وخطير ليس على السلفيين وحدهم، بل على أهل السنة أجمعين، وذلك لما يُمَثِّلُه اختفاء السلفية من العودة بالمسلمين إلى ما قبل السلفية، ولا يوجد خيار ثانٍ، والذين يزعمون أن حال المسلمين قبل عودة السلفية المؤزرة على يد الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة أفضل من حالهم بعدها إنما يجنون على أنفسهم وعلى أُمَّتِهم بشهادة الزور، فالسلفية هي أول من حارب الخرافة واستئسار القلوب لقبور الأموات وسدنة المقابر، وانقياد الشعوب الإسلامية للمشعوذين والبطالين، كما حاربوا نسبة كل ذلك إلى الدين، فقد كان أكمل المسلمين دينا بزعمهم هو المجذوب الذي يطوف بالأسواق ليستجلب الأموال بجذبته، أو شيخ الطريقة الذي يرسخ الخرافة في عقول أتباعه كي يستبقي على عبوديتهم له، أو سادن القبر الذي جُلّ همه إقناع زائريه أن المدفون بين يديهم أقرب إلى الله من سواه، وأن أعطياتهم له تجعله أكثر تحمسا لإيصال حاجاتهم إلى الله واستحضارها لهم.

هذا الجو الكئيب هو الذي جعل العرب الذين وهم أهل الرسالة المحمدية قرونا ألعوبة للمماليك والترك، ثم جعلهم نهبا للمستعمرين الصليبيين دون أدنى مقاومة.

ولما ظهرت السلفية وانتشرت في الآفاق بعثت معها مقاومة الاستعمار، كما بعثت معها مقاومة الخرافة واستعباد العقول. ولو زالت لعاد الأمر كما كان، بل أشد بأسا، لأن البدع والخرافات لم تعد وحدها التي تهدد المجتمع الإسلامي، بل سيأتي معها الاستغراب الحضاري الذي انغمست فيه الأمة بدرجات متفاوتة حقبة الاحتلال الغربي لبلادها، ولم يقف في وجهه رغم تعدد من حاول الوقوف في وجهه أقوى وأنجح من السلفية وأتباعها، وهذا ما يُفَسِّرُ لك أحدَ أسباب تفاوت الشعوب التي كانت مستعمَرة في رضوخها للتغريب، وهو مدى حضور السلفية بين ظهرانيها، فكلما كان الوجود السلفي في شعب ما أكبر كان انصياعه للتغريب أقل، وحفاظه على عاداته وهيئته العامة أكبر، ولهذا تجد العلمانيين والليبراليين وأدعياء التنوير من الليبروإسلاميين أغلظ أكبادا وأشرس قلوبا على السلفيين منهم على خُرافيي الصوفيين، مع أن المفترض أن يكونوا أقرب إليهم لاشتراكهما في اعتبار العقل ونبذ الخرافة والشعوذة، إلا أن شدة السلفيين ونجاحاتهم في محاربة التغريب واجتثاث موروث المجتمع هو سبب هذه المفاصلة.

وكذلك الأمر في الحكومات، فبالرغم من قول السلفيين بوجوب طاعة ولاة الأمر ولزوم الجماعة، إلا أن الحكام في العالم الإسلامي ألين عريكة وأكثر تقريبا لليبراليين البراجماتيين منهم للسلفيين، لأن الأخيرين عَسِرون في مواجهة الانحسار الثقافي أمام العولمة.

نعم إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى السلفية، وإنني أنطلق في قولي هذا من نظرة تؤيدها الأدلة الشرعية، كما يؤيدها فهم الواقع واستشراف المستقبل، وهي بفضل الله تعالى نظرة متنحية عن الهوى، إذ إن المنادي بالسلفية أبعد ما يكون عن التذرع إلى الشهوات، فأما شهوات البدن فالفقه السلفي أكثر مدارس الفقه تشددا في التضييق عليها، وأصلبها في سد الذرائع الموصلة إليها، وأما شهوات النفس من المال والجاه، فلا يخفى على متابع لحال الواقع أن آخر من يُبْذلان له في العالم كله اليوم هو المنادِي بالسلفية اعتقادا وفقها.

إن أهل السُّنَّة اليوم بالرغم من ضعفهم الظاهر هم أقوى شعوب الأرض على الإطلاق من حيث امتلاكهم مجموع العدد والتاريخ والجغرافيا، والمستقبل لهم، كما يؤكد ذلك الدكتور نبيل خليفة في كتابه «استهداف أهل السنة»، إلا أن هذا المستقبل المُبَشَّر به له شرط واحد كبير جدا إن لم يتحقق فلن يتحقق هذا المستقبل، وسوف تنجح كل عمليات الاستهداف التي تحدث عنها خليفة في كتابه ذلك، وهذا الشرط ببساطة أن يكون أهل السُّنَّة أهلَ سُنَّة حقيقية لا زعما وادِّعاء، فالسنة التي ننتسب إليها هي أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وإقراراته، وعلينا فعليا أن نلتزم بمرجعية هذه الأقوال والأفعال والتقريرات ونفهمها وفق فهم الصحابة وتابعيهم لها، لأن هذه السنة وهذا الفهم لها هو سر الاستهداف الذي نواجهه، وتركها هو أول وأقوى مظاهر استهدافنا، ولذلك نجد أن من مظاهر هذا الاستهداف العمل المكثف على تحطيم علاقة الأمة بهذه السنة بطرق شتى يشارك فيها، بل ويحمل رايتها -للأسف- أناس من أبناء السنة، أول هذه الطرق الحيلولة دون أن تكون لهم طريقة واحدة لفهم لهذه السنة، وهي طريقة السلف، وذلك بإنكار أن يكون للسلف طريقة للفهم تارة، وبانتحال منهج التأويل الباطل وصرف النصوص عن معانيها تارة، وبالتزهيد في أهل العلم الشرعي وطريقتهم في استنباط الأحكام تارة، وفي تقديس البدع في الدين وتقديس أهلها تارة، وبهذه الطرق لا يكون أهل السنة أهلَ سنة حقيقية إلا بمجرد الانتساب والإقرار بمصادر التلقي دون الاتباع الحق، وهذا يعني إرجاع الأمة إلى ما قبل السلفية، وهو العصر الذي استمرأ فيه الاستعمار والذل والانكسار، حين كانوا -كما وصفهم الشيخ محمد عبده- مسلمين بلا إسلام.

إن السلفية إذا سلمت من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين تضمن للمسلمين وحدةَ الاتباع، وهي أعظم معايير قوة المسلمين بعد أن تخلوا عنها قرونا إلى فرقة الابتداع.

أما أمراض التحريف والانتحال والتأويل فهي حقا أمراض تنتاب السلفية في وقتها الراهن، لكنها كفيلة بأن تعالج نفسها منها كالماء الكثير الذي لا يحمل الخبث.