في ذلك المساء وبعد نهاية صلاة العشاء، كان الرجل الستيني يمشي بين مسجده وبيته، ولأنه بدا متعبا توقفت إلى جانبه بالسيارة، وركب على مضض، لأنه -وكما يقول- يحب المشي كثيرا.

كنت أعتقده من أبناء المنطقة، لكثرة تقيّده بالزي المحلي، لأكتشف بعدها أنه من إحدى دول الشام، يعمل معلما منذ أكثر من 45 عاما، بلا كلل أو ملل.

كان يفترض ألا يتعدى مشوارنا دقائق معدودة، ولكنه طال كثيرا، فكل سؤال يعرض عليه يرد بإجابة مَن تتلمذ على يد الحياة، فتكون إجابته مفتاحا لمزيد من التساؤلات.

تساءلت عن سبب تدني مستوى القراءة لدى الطلاب حاليا، فقال إن «الرخاء ليس دائما محمود النتائج، وطلاب هذا الوقت وصل بهم الحال إلى اعتقاد أن ما لديهم على هواتفهم المحمولة، من وصولٍ سهلٍ للمعلومات يغنيهم عن التزود بذخيرة العلم، وأنهم بمأمن عن الحرب الغوغائية التي يشنّها الجهل كل يوم على عقول الجهلاء».

يقول، إن الدافع للبحث عن الشيء وتعلمه وممارسته هو الاحتياج إليه، ولكن غالب ما يصل بسهولة إلى أيدي طلابنا يجعلهم لا يقدّرون قيمته، ويجعلهم يخسرونه بالسرعة والسهولة التي حصلوا عليه بها، فينطبق عليهم المثل القائل

Easy come easy go، أو ما جاء بسهولة يذهب بسهولة.

قاطعته: «لكن لا أحد يكره الرخاء إن توفر له»، فأجاب «في أوروبا وأستراليا -مثلا- يعيشون برخاء أكثر منا، لكن الرخاء لم يجعلهم يجهلون أهمية العلم الذي لن يدوم بيننا ما لم نكن نقرأ، وهذا ما جعلهم يقرؤون رغم أنهم سبقونا بالرخاء بعشرات السنين». وأكمل «كل بني آدم يتعلم من البيئة المحيطة به، وأول بيئة محيطة بك هي أسرتك، والأسرة في مجتمعاتنا تجعل الأب منشغلا بتوفير العيش لبقية الأسرة. ولذا، فإن الأم هي من تكون قريبة من أطفالها أكثر من الأب، وهذا القرب يفترض أنه جعل لها مكانة في قلب طفلها، فتكون الإشارة منها تغني عن آلاف الكلمات من غيرها.

ولكن، حين تتساءل عمن «صحّا» الطفل من نومه، وذهب به إلى دورة المياه، وحضّر له الإفطار، وألبسه ملابسه، ورتّب له كتبه، وجلس بجانبه ليدفئه بأحضانه حتى يحضر باص المدرسة، واستقبله من هذا الباص خلال عودته، ستجد الفارق في الإجابة، وهذا ما يحدد الفارق بين رخاء طلابنا ورخاء طلابهم. فالأمهات هناك ما زلن يقمن بذلك كله، وأما نحن فالخادمة هي من تقوم بهذه المهمات والأم تنام حتى «الضحى العود» على قولة إخواننا الكويتيين.

وللأسف، فإن مختصر الإجابة عن سؤالك، أن ما جعل طلابنا غير آبهين بالعلم والتعلم، بامتناعهم عن القراءة، هو أن توجيه اهتماماتهم هي مهمة الأمهات. وللأسف يا بنيّ، الفرق بين طلاب زمان وطلاب اليوم، أنه وباختصار «ما عاد فيه أمهات يا ابني».