تشدني دائما مقولة «لا أستطيع أن أكتب»! نحن نعرف أنه من المفروض أن يكون الطالب قد تدرب على الكتابة في مراحل التعليم العام، ولكن ماذا لو لم يتقن هذه المهارة؟ وها هو ذا في المرحلة الجامعية يجاهد لكي يكتب فقرة في سؤال مقالي! نعم هناك تقصير ما حصل خلال سنوات تعليمه في المراحل الأولى، ولكن الآن! ماذا عن الآن؟ من المسؤول عن عدم معالجة هذا النقص في المهارات الأساسية التي يحتاجها كل طالب في مرحلة ما بعد التخرج؟ ليس المطلوب أن يتخرج أديبا أو حتى شاعرا، المطلوب منه فقط أن يتخرج وهو يمتلك على الأقل مهارة كتابة تقرير أو شرح فكرة أو معالجة قضية، وهنا نرجع إلى القضية: مسؤولية من؟ برأيي، وفي هذه المرحلة من حياة الطالب، تصبح مسؤوليته!

يقول الكاتب المشهور ستيفن كنج: «إذا كنت تريد أن تكون كاتبًا، فعليك القيام بأمرين قبل كل شيء: قراءة الكثير والكتابة كثيرًا. لا توجد طريقة للتغلب على هذين الأمرين اللذين أعرفهما، ولا يوجد اختصار. من الصعب عليّ أن أصدق أن الأشخاص الذين يقرؤون القليل جدًا (أو لا يفعلون ذلك على الإطلاق في بعض الحالات) أن يتجهوا إلى الكتابة، ويتوقعوا من الناس أن يعجبوا بما كتبوه! لكنني متأكد من أنه لو أنني جمعت قرشا عن كل مرة أخبرني بها شخص أنه يريد أن يصبح كاتبًا، ولكن لم يكن لديه وقت للقراءة، لكنت جمعت ما يمكنني أن أشتري به وجبة عشاء فخمة، هل يمكن أن أكون صريحا في هذا الموضوع؟ بكل بساطة، إذا لم يكن لديك الوقت الكافي للقراءة فلن يكون لديك الوقت (أو الأدوات) للكتابة».

تذكرت هذه المقولة وأنا في جناح جامعة جدة بمعرض جدة للكتاب، وأنا أشارك في إحدى الفعاليات الثقافية التي تقيمها الجامعة على امتداد أيام المعرض، كانت مشاركتي عن القراءة الحرة، ووقفت أتحدث للمهتمين من زوار المعرض ممن شدهم عنوان مشاركتي، وتوقف ليسأل ويصغي إلى ما لدي من معلومات حول هذا الموضوع، كانت الأسئلة كثيرة، وسعدت بسبب اهتمام الكثيرين بالتعرف على الأقل إلى ما تعنيه كلمة «حرة» في عنوان المشاركة، المهم أنني عرفت، من خلال حواري مع إحدى الشخصيات التي تعدّ نفسها من شريحة الكتاب، أنه ليس لديها وقت للقراءة! هنا تحرك عقلي للتفكير بسرعة مائة كيلو في الساعة! بما أن الكتابة تأتي بعد القراءة وغزارة المفردات التي تعني مفاهيم ومعاني وأفكارا لا تأتي من فراغ؛ إنها تأتي إما من القراءة وإما من الخبرات الثرية التي يعيشها الإنسان، الآن إن لم يكن لدى المرء وقت للقراءة أو حتى للخروج إلى العالم للحياة واكتساب الخبرات، فمن أين ستأتيه كلمات للكتابة؟ فإن قلنا إنه قام بتخزين كل هذه الخبرات في مسيرة حياته الأولى، أفلا يعني أنه وصل إلى مرحلة التكرار وعدم تقديم أي جديد! لا أعلم لربما انحيازي إلى القراءة قد أخفى عني أمرا ما زلت أجهله! لكن فعلا حين تحاور البشر من حولك تتعلم منهم أكثر مما تقدمه، وأستطيع أن أضيف مئات المرات! والذي توصل إليه تفكيرها المحدود، بغض النظر عن نوعية ما تكتبه هذه الشخصية، أنها لا بد قد قرأت ما يكفي ليتحرك قلمها، ولا بد أنها اكتنزت من الخبرات ما ملأ دواتها! فلا شيء يأتي من فراغ، دون تجميع من خلال القراءة ودون التدرب والنجاح والفشل إلى أن تتمكن من المهارة لن يخرج منك شيء يستحق أن يُقرأ! يقول الأديب وليم فوكنر وهو يقدم نصيحة لمن يريد أن يصبح كاتبا: «اقرأ اقرأ اقرأ. اقرأ كل شيء.. التافه، والكلاسيكي، الجيد والسيئ، وتمعن كيف يفعلون ذلك (الكتابة)، تماما مثل النجار الذي يعمل كمتدرب ويدرسه معلمه، اقرأ! سوف تتشرب (الصنعة)».

عندما يخبرني شخص ما أنه لا يحب القراءة، فإن عقلي دائمًا ما يضيف إلى ذلك: «حتى الآن، لم أجد لذتي في القراءة». أعرف الكثيرين من الأشخاص الذين سرقت منهم لذة القراءة خلال السنوات الأولى من حياتهم، من خلال إجبارهم على قراءة الكتب التي لم تكن تعني لهم شيئا سوى أنها كانت مفروضة عليهم! وأعرف آخرين ممن وجدوا أخيرًا كتابًا ملأهم وشدهم وغير مجرى حياتهم، وكان ذلك كل ما يحتاجونه ليصابوا بجرثومة القراءة ـ كما أسميها ـ فبمجرد العثور على الكتاب الذي اخترق ذاك الجدار المبني من خلال القراءة الإلزامية، أصبحوا قراء نهمين!

وهنا أعود إلى البداية، بما أن الكتابة مسؤولية الطالب بأن يعمل على بناء مهاراته فيها، فما عليه سوى أن يتجه إلى القراءة الحرة، فليبحث عن كتاب قريب من اهتماماته ويبدأ به، ميزة القراءة الحرة أنها غير إلزامية وهي للمتعة، ولا تحتاج إلى وقت محدد أو مكان محدد، يستطيع الفرد أن يقرأ وهو في غرفته أو في الحديقة أو في المقهى، يستطيع أن يقرأ صفحة أو اثنتين أو عشرة، يستطيع أن يضعه على طاولة ويعود إليه بعد أسبوع دون أن يشعر بأي تأنيب ضمير أو ضغط بأنه يجب أن ينهيه. وأنا أستطيع أن أجزم بأنك متى ما وقع كتاب يشدك إلى درجة أنك لا تستطيع أن تفارقه حتى تصل إلى النهاية فإنك تكون قد وضعت قدميك على بداية طريق عالم القراءة، عالم المتعة والخيال والمعرفة والحقائق، عالم الآخَر.. كل آخَر من الشعوب التي تشاركنا في هذه الأرض، عالم تحاوره ويحاورك، يستفزك أحيانا ويرعبك أحيانا أخرى، يفرحك أحيانا ويحزنك أحيانا أخرى، ولكن الأهم من ذلك أنه يضيف إليك كلمات، يضيف إليك مفاهيم، يضيف إليك أفكارا، وتنمو مع كل صفحة تقلبها وكأنك تقلب في صفحات حياتك.. إذا كنت تريد أن تكتب فتعلم ممن سبقك، تعلم من الكُتّاب.. نقطة على السطر انتهى.