في بعض الأحيان يأتي أحد المرضى إلى عيادة السكري وهو ينتظر دوره للدخول على الاستشاري، يجد أمامه كتيبات عن السكري ويقرأها بتمعن وشغف ويعرف معلومات عديدة عن المرض، وهذا شيء ممتاز ومحمود، لكن إذا سأل نفسه هذا السؤال: ما دام مرض السكري يختصر في هذه الكتيبات، أو حتى كتاب لماذا استشاري السكري يدرس ربما أكثر من 14 سنة، لكي يصبح مختصاً بالسكري (7 سنوات في كلية الطب و4 في الباطنية وربما 3 في تخصص الغدد الخ..)، بينما هو في في أقل من ساعة انتظار عرف المعلومات عن السكري!؟، لماذا يتعب الطبيب نفسه كل هذه السنوات؟ دون شك هناك أسباب وجيهة جدا للطبيب لكي يمضي كل هذه السنوات ليصبح استشاري غدد ولسنا في طور تعدادها.

لكن هذا ينقلنا حرفياً إلى السؤال نفسه، لكن في مجال آخر وهو السياسة!.

إذا قرأ شخص بضع مقالات وكتب عن السياسة، وتابع الأخبار في بعض القنوات الإخبارية ووسائل التواصل، هل يصبح سياسياً أو محللاً سياسيا !؟

لم أر مجالاً ينتهك وكل يدخله دون مقومات مثل السياسة في العالم العربي، وكأن الجميع أصبح محللاً سياسياً، في الغرب يأتي البعض من خلفية غير سياسية، لكن يكون محاطاً بعلماء علم السياسة لكي يرشدوه، ويأخذ استشارتهم ويكون له مطبخ سياسي من الخبراء، لوضع السياسات والقرارات، واختيار الأفضل منها لكل حالة أو قضية وتطبيقها.

في عالمنا العربي كل يفتي بالسياسة، أنا أحترم حرية الرأي، لكن أستغرب من الذي يستهزئ بكل رأي غير رأيه وكأنه وحيد زمانه.

من باب العلم فإن علم السياسة له مدارس وقواعد وأسس مثل بقية العلوم ويحتاج سنوات لتعلمه وتطبيقه، ولكي تختار قراراً، هناك عملية مفصلة لاتخاذ القرارات السياسية والخارجية، ولوضع سياسة معينة هناك مدارس وقواعد معقدة في أي قضية أو شأن، أتمنى أن تسألوا المحللين السياسيين الذين هم أكثر من الأرز في القنوات الفضائية كمثال، ما هي الطرق والمدارس لتحليل ووضع السياسة الخارجية في أمر ما؟

هذا فرع معروف في العلوم السياسية، وله طرقه ونماذجه، ولكل طريقة مراحل عدة، وهناك نماذج مختلفة للتعاطي مع كل أمر أو مشكلة الخ.. بينما لو سألت كثيراً من المحلليين السياسيين في القنوات العربية هذا السؤال، لا أعتقد أن الكثير منهم يعرف أي شيء أو يعرف عما تتحدث أصلا!

ويقولون لماذا سياسات الغرب تنجح والسياسات العربية تفشل، لأن كثيراً من السياسات العربية مبنية على ردود أفعال أو مشاعر أو سمات شخصية أو حتى هياط، أو ما يريد أن يسمعه الجمهور، بينما عملية وضع السياسات في الغرب تبنى على أسس علمية ومدارس ونماذج في علم السياسة!

قبل سنوات طويلة كنا في باريس نذهب لأحد المطاعم العربية الصغيرة، والحق يقال يعمل سندويشات لذيذة، لكن صاحب المطعم كثير الكلام والرغي، يتكلم في جميع الأمور، ويحلل كل الأحداث، ولم يكن يعجبه أحد في العالم العربي ولا حتى الغربي، ولديه مقولة معروفة (لو أنا مكان السياسي الفلاني، كنت عملت كذا وكذا)، وكنا نتحمل (ونسلك له)، وننتظر متى تخلص السندويشات، فهذا الرجل مع كامل الاحترام لمهنته ولمهارته في الطبخ، يذكرني ببعض المحللين السياسيين والعسكريين، لا أعلم إذا صاحب المطعم تعاقد مع أحد القنوات الإخبارية.

السياسة مثل بقية العلوم والمجالات لا تأتي بـ«الفهلوة»، كما بعض أصحاب الوساطات الذين تخصصهم شرق والسياسة غرب.

ملخص الكلام، لماذا انتهاك السياسة من الجميع، أصبح سمة دارجة حالياً؟. فعلا «من تكلم بغير فنه أتى بالعجائب!».