نستقي من الدول المتقدمة الكثير من المبادئ العلمية والمهنية، المُنظِّمة للأعمال في إدارتها، وبما يتصل بها من تخصصات علمية تمثل القاعدة التي تنطلق منها، أسس المعاملات الإدارية وما يتعلق بها من أنظمة وقوانين تساهم في تمكين الموارد البشرية، وفي تعزيز القيمة المتحصلة منها، سواء في تحمل مسؤولياتها، أو في حفظ حقوقها، وبما ينعكس إيجاباً على الوطن ومقدراته.

تعتمد الدول المتقدمة بلوغ السن 64 عاماً للتقاعد في جميع المهن العامة، وذلك مكفول بالكثير من الامتيازات التي يتحصل عليها المتقاعد، علاوة على ما يتيحه له المجتمع بمؤسساته من مجالات وأنشطة، للمشاركة في تنمية المجتمع؛ منها التطوعي ومنها المدفوع، للاستفادة من تلك الطاقات البشرية التي تمرست خبرة وفي مسيرة أعمالها لسنوات، ولا زالت تشهد عليها بصماتها في الأداء والإنجاز.

الدول المتقدمة التي سجلت مستوى عاليا من المنجزات في مسيرتها التنموية، تعتبر نموذجاً يستحق الأخذ بسياساته، وبمعاييره وأنظمته وتشريعاته الخاصة بالعمل ومتطلباته، وما يتعلق بموارده البشرية من قوانين تُنظِّم مستحقاتها وواجباتها، في إطار من العدالة والوعي والتقدير للخبرة والكفاءة، في تحمل مسؤولياتها وفي إدارة مؤسساتها، وهي تؤمن بأنه ما كان لهذه المؤسسات أن تنجح لولا وجود تلك الموارد البشرية التي أحسنت إدارة دفتها نحو النجاح.

وبالنظير نجد أن وطننا يفقد بالتقاعد سنوياً عدداً غير قليل من كفاءاته التي قدمت نموذجاً مشرفاً للوطن في عطائها المتميز، والتي أضافت الكثير لمنجزاتنا، عبر جهود حثيثة وعلم وعطاء لا يعرف الكلل والملل، ولا ينتظر التقدير مقابل العطاء، هم أعطوا من أجل العلم وشرف المهنة، ليكونوا في خدمة الوطن، بعضهم قد تكون معروفة شخصياتهم فيُكرّموا ويشار لهم بالبنان، والبعض الآخر قد يكونون مغمورين في حضورهم ومغبوطين في مستحقاتهم، ويشمل ذلك العاملين في مختلف المجالات والقطاعات التي تساهم في بناء مسيرتنا التنموية.

ساهمت تلك العقول النيِّرة بشخصياتها الفذة في بناء لبنات مؤسسات وصروح علمية ومهنية عظيمة، كما تركت بصماتها ولمساتها الإنسانية النبيلة، في بناء شخصيات وقيم ومبادئ، أثْرَت بها أفرادا ومؤسسات لتكون علَماً شامخاً وقدوة لأجيال، هم رموز ونماذج وطنية مشرفة، تستحق أن يُحتفى بها تكريماً وتقديراً وعرفاناً بجميل قدموه، لا يقدر بثمن في معناه وقيمته، صحيح أنهم جنود الوطن وأبناؤه، وعليهم واجب نحو الوطن، ولكنهم أحسنوا العطاء وأخلصوا في البناء، فاستحقوا التكريم والاحتفاء، لذاتهم النبيلة ولجودة سيرتهم وإنتاجهم لعقود مضت. ولعل من الأمور التي تدعو للعجب أن يتُداول منذ سنوات قرار تمديد سن التقاعد في مجلس الشورى إلى 64 عاماً أسوة بالدول المتقدمة، ويفشل الإقرار به، على الرغم من أننا لا زلنا نفتقر إلى القيادات الإدارية المحنكة من مواردنا البشرية في كثير من قطاعاتنا، ونلجأ إلى التعاقد مع غير المواطنين لسد العجز في الخبرات والتخصصات العلمية.

ومن المثير للدهشة أننا في كثير من القطاعات، نجد متعاقدين من غير المواطنين، ممن تعدوا سن التقاعد النظامي (60 سنة) بسنوات، ولا زال يُجدد ويمدد في عقودهم، بينما يحال المواطن إلى التقاعد، وقد يمنع التمديد له وهو مستحق - بالنسبة للأكاديميين- للحاجة إليهم، بل ويحال التعاقد معه كذلك! يمثل الأكاديميون ومن يماثلهم من المتميزين في القطاعات المختلفة، شريحة مهمة من الموارد البشرية التي تستحق الاستفادة منها، طالما هي قادرة على العطاء، وطالما هناك حاجة لوجودها. ولأهميتهم فهم؛ يُستثنون في كثير من دول العالم، من تطبيق السن النظامية للتقاعد عليهم، ليكون خياراً لهم، بل ويتم تعزيز مكانتهم وتقديرهم، بمزيد من الامتيازات، نظير جهودهم وخدمتهم الطويلة وعطائهم غير المحدود؛ بتخفيض ساعاتهم التدريسية-للأكاديميين-، والاستفادة من رصيدهم العلمي وخبرتهم، في إجراء دراسات مهمة والإشراف على الدراسات العلمية، علاوة على الاستعانة بخبراتهم في توجيه السياسات الإدارية وتطوير البرامج الأكاديمية، إلى جانب تيسير إجراءات استفادة القطاعات الأخرى منهم، كمستشارين.

هذا ما يفعله العالم المتحضر، الذي يُقدِر المعرفة ويحترم العلم ويُثمِّن قيمة موارده البشرية التي لا يمكنه تعويضها بسهولة، فهم يدركون أنها كنز من كنوزه، وعليهم أن يحرصوا على استمرار عطائها واستمرارية وجودها في مجالها، لتشارك بخبرة صقلتها السنون، لتستفيد منها أجيال متوالية ومؤسسات شاهدة على نتاجها.

يعتقد البعض أن تقاعد تلك الشرائح المتميزة من كفاءاتنا البشرية، سيوفر وظائف للشباب الباحثين عن عمل، بما يوفره من مستحقات ومتطلبات قد تكون عالية، لتتحول إلى مؤسسة التقاعد أو التأمينات الاجتماعية، متجاهلين الخسارة الكبيرة التي يخسرها القطاع، بخروج هذه الشرائح من الميدان بخبراتها وحنكتها العملية، والتي لن يعوض مكانها بدائل في قيمتها العلمية والمهنية.

فهل توظيف الشباب يتعارض مع بقاء تلك الفئات من المتميزين من كفاءاتنا الوطنية؟ أم أن مستوى الوظائف ودرجتها ونوعها، تختلف تماماً عن تلك التي يتقلدها الشباب!، أليس وجودهم يساهم في توجيه الشباب ودعم القطاعات إدارياً وعلمياً!، لماذا ننهي بأنظمتنا وجود كفاءات مواطنة ونحن في أمس الحاجة لها؟! هل تكبلنا اللوائح والأنظمة عن مصالحنا، أم نكبل بها أنفسنا طواعية بتجاهل مصالحنا واحتياجاتنا الوطنية؟! ألا تحتاج تلك اللوائح إلى التطوير والتغيير، بما يخدم تطلعاتنا التنموية وجودة الحياة؟ ألم تنته صلاحية تلك الأنظمة، في ظل ما حققناه من منجزات تنموية نعتز بها على الصعيد المادي والبشري؟!