استغرب كثيرون اعتماد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عملية قتل الإرهابيَين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.. والذي يدعو للاستغراب هو استغراب البعض، ومنهم من يدعون أنهم محللون سياسيون في القنوات الفضائية!.

هناك باب كبير وأساسي في السياسة يسمى سياسة الردع، قد يذكر بعض القراء مقالي عند هجوم أرامكو «السعودية وإيران التوازن الإستراتيجي والعسكري» عن أن سياسة الردع تستلزم أن يرد الطرف على خصمه أكثر من أربعة أضعاف قوة ضربة الخصم حتى ينشئ ردعا، وذكرنا وهذا اقتباس من المقال «الرد الأمثل لكي يكون رادعا ولسنوات، لأن أي عملية رد بسيطة ستجر سلسلة من الأحداث وردودا من الطرفين، لذلك يجب وضع سياسة الردع موضع التنفيذ، فأي ضربة قادمة يجب أن تكون مضاعفة بما لا يقل عن أربعة أضعاف».

الردع هو عملية منع شيء ما، خاصة الحرب، من خلال امتلاك أو عمل شيء معين مثل الأسلحة أو العقوبة الشديدة لاستخدامه، بحيث يجعل الطرف الآخر لا يفكر بالرد عليك.

وهنا يختلف الرد عن الردع، فالردع عادة يكون قاسيا أو ذا كلفة كبيرة، بحيث يمنع الطرف الآخر من التفكير بالرد، أما الرد فهو مقابلة الشيء بشيء مقارب له إلى حد ما.

ببساطة، أراد ترمب ردع إيران حتى لا تفكر بالرد خصوصا أنه في سنة الانتخابات، ولا يريد شيئاً يغير تركيزه عن الحملة الانتخابية أو يسبب له إحراجا معينا!، لذلك كان الرد قاسيا على قصف القاعدة وقتل الأمريكي بأن دمر قواعد حزب الله العراقي، وكان الرد على الهجوم على السفارة هو قتل العقل المخطط للهجوم سليماني!.

وما فعلته إيران من هجوم صاروخي على قاعدتين أمريكيتين في العراق ليل أول من أمس، ليس إلا فرقعات أريد بها الإعلام، لأنه لا يمكن أن يسمى ضربة من حيث الحجم والتأثير وحتى النتائج، فالأمر لا يعدو بضعة صواريخ عبثية لا تساوي شيئاً في المقاييس العسكرية والسياسية.

سياسة الردع باب واسع جدا في علم السياسة، وله أنواع منها الردع الموسع والردع المحدود.. والردع الموسع أن تحمي نفسك وحلفاءك، والردع المحدود تحمي نفسك، وقد شرح الجنرال بترايوس وهو خبير عسكري مخضرم ويعرف تماما ما يقول أهمية الردع في الجيش والاستخبارات، وهو يقول في «الفورين بوليسي» ردا على سؤال «هل تعتقد أن قرار شن هذا الهجوم على الأراضي العراقية كان استفزازيا بشكل مفرط؟»، فأجاب بكل احترافية «هذا جهد مهم للغاية لإعادة إرساء الردع، والذي من الواضح أنه لم يتم تعزيزه من خلال الردود المتواضعة نسبيا حتى الآن»، ويعني أن الردود الأمريكية السابقة على الاستفزازات الإيرانية السابقة كانت متواضعة ولم تكن ذات أهمية، أما الآن فإن العمل تم وسيتم على إعادة إرساء الردع بهجوم قوي.

لكي نسهلها للقارئ، اذا اعتدى شخص على شخص بضربة واحدة، فإن الشخص الثاني قد يقوم بالرد أيضا بضربة، وربما يرجع الأول بضربة ثانية أخرى، وهكذا دواليك، لكن الردع إذا قام بضربه ضربة واحدة وقام الآخر بالرد من خلال ضربات قوية متتابعة عدة حتى أفقده وعيه، فهنا نقول إن الثاني أنشأ ردعا، ولذلك لن يقوم الأول بالرد قبل أن يفكر ألف مرة!.

سياسة ترامب حاليا تتبع لمدرسة الواقعية السياسية الجديدة (نيوريلازم) وهي السياسة الأجدى لمنطقة الشرق الأوسط، ليس فقط لأنها المدرسة التي تعلمناها في السياسة وليس لأن أستاذنا ومعلمنا كينيث ولتز هو الأب الروحي لها، لكن أثبتت الأحداث مدى نجاعة وبعد نظر هذه السياسة.

في مقال الأسبوع الماضي، وشرحا لسياسة الواقعية الجديدة حتى قبل قتل سليماني والمهندس، قلت «إيران لا تعرف إلا لغة القوة ولغة التهديد، وعلى الأمريكيين إذا أرادوا ألا يعاد السيناريو لانتهاك سفاراتهم أن يعاقبوا إيران ويعاقبوا أدواتها بشدة وخصوصا (رابطة العملاء الأربعة في بغداد)، الذين وضع صورهم وزير الخارجية الأميركي»، ويبدو أن الإدارة الأمريكية اقتنعت بسياسة النيوريلازم والردع، وكان توقعنا لمعاقبة إيران صحيحا، ليس لأننا نعلم الغيب أو أن الإدارة الأمريكية تستمع لنا، لكن لأننا ذكرنا خيارا موجودا في إحدى أعرق مدارس علم السياسة، وهذا يدل على أن الإدارة الأمريكية أو السياسيين الغربيين على العموم يمشون على خطط علمية في علوم السياسة وليس ردود أفعال تأتي جزافا، لذلك يصل السياسيون الغربيون إلى أهدافهم بينما كثير من العرب يعتمد على ردة الفعل والمشاعر، لذلك هم لا يفهمون تصرفات الرئيس ترمب، خصوصا بعض من يدعون أنهم محللو سياسة.