«الوعي السياسي» في العراق بعد سقوط بغداد اتّكأ على مخرجات طائفية سببها «استبداد» صدام حسين ابتداء، ونتيجتها إيران ختاما، فحتى نظريات «حزب البعث العربي الاشتراكي»، إذا تحولت إلى عقيدة جامدة صماء لا تقبل النقاش حتى داخل مجلس قيادتها القطرية، فلا بد أن تخلق انقساما بين بعث العراق وبعث سورية، وكل حزب سيخرج دكتاتوره العربي كما أخرجت الماركسية عند تحولها إلى عقيدة أيديولوجية ستالين، ومنه بدأت نهاية الاتحاد السوفييتي، رغم العقود التي تفصل بينه وبين البيريسترويكا، فالدوغمائية/الجمود الأيديولوجي هو مقتل الأفكار والدول.

قاسم سليماني مات، والمهم في موته الدرس القاسي في الطريقة «مقتولا محترقا أشلاء». درس صدام حسين من الحفرة إلى المشنقة في 2006 استغرق وقتا كي يستوعبه العرب وثمن الفهم عال جدا، كان دماً ودُولاً من 2010 حتى الآن، فهل يحتاج الفرس إلى الوقت نفسه كي يستوعبوا الدرس قبل أن يقع ربيعهم الفارسي، وهل يكون استيعاب فارس متأخرا كاستيعاب العرب على لسان القذافي الذي قاد ظاهرة الكلام الطويل والممل للخارج، ولم يقد ظاهرة الإصلاح السريع الناجز من الداخل، لتتعرى إشكالات جاره إذ قال «فهمتكم... فهمتكم» المتأخرة جدا، أما هو فقد عجز عن الفهم أصلا، إذ قال «من أنتم؟». بالنسبة للحركات الإسلامية، وبحكم جمودها الفكري، فلم تفهم حتى الآن دلالة الرأس الثالث الذي يخصها «أسامة بن لادن»، ورمي جثته في عرض البحر، ولهذا، فما زالت تقدم الأضاحي «كالخراف الضالة تماما» مملوءة قطعانها بذئاب المخابرات يرتدون فرو الحملان، والخراف تزهو بإنجازات النطح هنا وهناك، والذئاب تفترسها سرا وعلنا هنا وهناك.

في نظري، أن إيران عندها من المرونة ما يجعلها تتجنب «الربيع الفارسي» وأقصى ما يمكن هو التآكل الداخلي لمفهوم ولاية الفقيه لتصبح فارغة من المعنى. فالرهان للخروج من مأزقهم يكون على «العقل الفارسي»، وليس على «عمامة الفقيه» في إيران، وتبقى إيران حرةً وشعبا عظيما بدون أيديولوجيا جامدة، فإن أصرت على الجمود فليست أكثر تصلبا من السوفييت، ولا المرشد الأعلى «للثورة» الإسلامية أصلب من الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي. ولهذا، فالظن أن إيران ستنظف نفسها من «الجمود الأيديولوجي» بدون أمريكا، أكثر من احتمال فعلها بأمريكا.

وهناك الكثير يستغرب الربط بين الشيوعية وولاية الفقيه، غافلين عن أن الأدبيات اليسارية الجاهزة في إيران منذ أيام مصدق، هي التي ركب عليها الخميني في تحريك الشارع الإيراني، بل وركبتها حركة الإخوان المسلمين، فكل الأفكار الشيوعية عن الصراع الطبقي والمساواة والإمبريالية والرأسمالية والأممية، وغيرها من أفكار، تضرب على وتر المظلومية من استئثار طبقة عليا على الخيرات، وضياع العدل والمساواة، والهوس بنظرية المؤامرة... إلخ، قام الخميني، ومن بعده كل حركات الإسلام السياسي، وعملت عليها.

فالإسلام السياسي هو الوريث الشرعي لـ«الشيوعية» ليموت «الفدائي» الشيوعي، ويأتي بعده «الانتحاري» الإسلامي، لتأدية الوهم نفسه في خدمة الطريق إلى هستيريا «الأممية» عند هذا وذاك، ولهذا نجد الإسلام السياسي حتى هذه اللحظة يتكئ في قاعدته الجماهيرية على الأحياء الفقيرة والقرى والبوادي النائية، أكثر من اتّكائه على تعاطف أبناء الطبقة المتوسطة والعليا، والذي ينجو من تشرب أدبيات سيد قطب فلن ينجو من أدبيات علي شريعتي، وكلاهما يلبس ربطة العنق والبدلة الإفرنجية.

أخيرا، وفي لقاء قديم في فبراير من 2019، ذكر بني صدر في لقاء له على موقع دي دبليو الألماني، عندما سئل عن انضمامه إلى حركة آية الله الخميني، فقال: «المعلومة ليست صحيحة، لم أنضم إلى حركته، حتى الخميني نفسه لم يكن يعتقد أن السكان سيحدثون ثورة، لم يصدر منه أي تصريح من شأنه دعم هذه الحركة الثورية، تولى منصبه الأول بعد 40 يوما من بداية أعمال الشغب... كان الأمر بالأحرى أن الخميني هو من انضم إلى الثورة الإيرانية ومطالبها ومبادئها، وكان قد أعلن هذا للصحفيين في جميع أنحاء العالم في نوفل لو شاتو بفرنسا، لكن بعدها خان الخميني هذه المبادئ.. الخميني أعلن عن تسعة عشر مبدأ، بما في ذلك الاستقلال والحرية والديمقراطية، كما أعلن عن مبادئ جدّ متقدمة، منها السيادة الشعبية وحقوق الإنسان، وفصل المؤسسات الدينية عن الدولة، وكذلك حرية المعتقد، وأعلن موافقته عليها جميعا...».

أقرأ هذه الكلمات وأستعيد حماقة الإخوان المسلمين في مصر، إذ حاولوا السير على خطى الخميني، حذو الكذبة بالكذبة، فيزداد يقيني أن «ولاية الفقيه» خارج التاريخ، أما إيران كحضارة وشعب عريق فباقية، وإلى حسن الجوار ماضية، فسباق هذا القرن الجديد، باتجاه دولة المؤسسات والمجتمع المدني والمواطنة، لا دولة الطائفة أو القبيلة.