الموت أكثر مفردة يعاني الإنسان الجهل بها، حيث يخاف من نهاية حياته والانتقال إلى العالم الآخر، فأصبح الموت هو الهاجس الذي يراوده في كل عمل لتفادي حتمية وقوعه، حتى تحول من شدة الحديث عنه والتفكير فيه إلى ترغّب انتظاره وتهيئة كل الظروف لاستقباله، وترديد عدد من العبارات التي تدعم حدوثه بأكثر من اللازم، ووصل به الأمر إلى حد المرض النفسي، وأنه لا مفر من مكتوبه والطلب من الله أن يرزقه الموت ومغادرة الحياة، وأن كل فقد برحيل عزيز أو حبيب، سواء كانت الوفاة بسبب الإهمال في المحافظة على النفس وعدم الأخذ بالأسباب أو غير ذلك.

وفي مقابل الموت تكون الحياة التي هي مسؤولية الإنسان عن السعي فيها وإدارتها واستثمارها وخلافتها والارتقاء بها (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ)، وتكمن أولا في تعزيز غريزة البقاء بالمحافظة عليها والدفاع ضد الاعتداء عليها أو زهقها بسبب الإهمال أو التقصير أو سوء التقدير، أو من خلال الأمراض التي تُؤدي إلى تقصير عمرها والفتك بها، فالله خلق الموت والحياة واختبرنا فيهما بالعمل الحسن لمواجهة تحدياتهما الحتمية (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فتحدي الموت يكون من خلال الوقاية والحماية والسلامة من كل آفة أو سبب أو ضرر يؤدي إليه، وتحدي الحياة يكون بتسخير واستثمار كل ما فيها وتهيئة جميع مناخات ومتطلبات العيش بسعادة ورفاهية في كل المجالات والاحتياجات، بدءا من الأمن بكافة أنواعه وأشكاله، ووصولا إلى الرفاهية بجميع خدماتها ووسائلها، وفي ظل هذا المفهوم تقع المسؤولية على عاتق الفرد والمجتمع في المشاركة والمساهمة في مقاومة الموت بشكل تربوي وعلمي، وتحدي الحياة بإبراز جميع الطاقات الداخلية والخارجية التي يتم استثمارها من خلالها العمل الحسن من أجل الفرد نفسه ومجتمعه وإنسانيته.

فثقافة الحياة مرتبطة بالموت ارتباطا وثيقا، وكل واحد منهما يدعم الآخر ويقويه بشكل متناسق، وأن فك الارتباط بينهما يجعل من كل واحد منهما يعمل ضد الآخر، فتكون وظيفة الموت تهديد الحياة، وتصبح الحياة أشد أعداء الموت وفريسته، وحينها يكون الصراع بين وجهين لعملة واحدة، والنتيجة لا غالب ولا مغلوب، ولكن ضعف وقلة وعي وإدراك وانحراف عن هدف الوجود، فالمجتمعات الإسلامية التي تنشغل بتنمية ثقافة الموت وتحث عليها عبر خطابها التعبوي في التطرف والقتال ضد الآخر، وتجعله غاية للمسلم، إنما هي تحارب ثقافة الحياة في سبيل الله وإعمارها من حيث لا تُدرك ولا تعلم، (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، فعناصر الموت في سبيل الله محدودة جدا واضطرارية وضمن وظيفة دفاعية عن النفس، وأما ثقافة الحياة فهي مفتوحة في كل المجالات، وأن الداعم لها إدارة الموت وتأجيله والبعد عن أسباب تعجيله (وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)، وأن معركة الإنسان الكبرى في وجوده هو حماية ذاته من الموت الذي هو وسيلته نحو غايته الكبرى وهي عمارة الأرض، وخلافتها وهي غاية الوجود.

إن التربية الخاطئة التي تعرضنا لها بكافة أنواعها، الأسرية والدينية والاجتماعية، هي التي زرعت الخوف الزائد من الموت مقابل الحياة في نفوسنا وحولته إلى فوبيا الموت الذي لم نُولد ونحن نحمله في فطرتنا التي أودع الله فيها حب البقاء وليس الموت (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، ونتج عن ذلك العجز والضعف وإفساد متعة الحياة، والخوف الدائم من المستقبل والأمراض النفسية والدينية، وأنه حان الوقت من أجل وقف نزيف الجهل تجاه حقيقة مفهوم الموت، وزيادة الوعي بمفهوم الحياة في سبيل الله الذي لا حدود ولا حصر له.