من أكثر ما يهين العقلاء أن يأتي أكاديمي عاقل فيفرد بحثا (كما يقول) يجمع فيه من خلال جهده (العقلي) كل الأدلة (العقلية) في الانتقاص من (العقل)؟!!، هل يوجد تناقض أكبر من هذا؟ نعم يوجد، فحتى القرآن نفسه راهن في كامل جدلياته على (أفلا يتفكرون، أفلا يعقلون)، أي أن رهان القرآن كان رهانا على العقل، ثم يأتي من يقول: (النص حاكم على العقل، وليس العكس)، لتتفاجأ بحقيقة هذه العبارة أنها عبارة سياسية بامتياز، لأنها في حقيقتها تتجه إلى تقسيم العقول إلى نوعين (عقل رجال الدين) و(عقل العوام)، طبعا (عقل العوام) محكوم بالنص، بينما (عقل رجال الدين) حاكم على النص خاص أم عام، مطلق أم مقيد، مجمل ومبين، ناسخ ومنسوخ... إلخ، على خلاف واسع في تفاصيل ذلك بين طبقة رجال الدين أنفسهم... إلخ من مخرجات عقلية يجمعونها في علم عقلي يسمونه (أصول الفقه)، يبتدئ الدارس فيه بباب أساسي في العلوم العقلية يسمى (المقدمة المنطقية) التي تعود في أصلها للمنطق الأرسطي!؟!!.

البعض يغالط بلغة خطابية، ترسب في أول تمحيص إذ يقول لك: (كيف تريدني أن آخذ بالعقل وأترك الوحي) فتسأله بشكل مباشر: هل أنت نبي يأتيك وحي من السماء عندما تأخذ بالوحي وتترك عقلك، فيرد عليك: أعوذ بالله لم أقصد هذا، بل أقصد كيف أترك القرآن؟ فتقول له: مشكلتك تعيدنا لمربع الخوارج قبل ألف وأربعمئة سنة عندما أصروا على الإمام علي في مسألة (تحكيم كتاب الله) فقال لهم: وهل المصحف إلا كلام بين دفتي كتاب لا يستخرج ما فيه إلا الرجال ويقصد بذلك (عقولهم)، ويشير بهذا إلى ما رأيناه من أسباب أدت إلى استباحة قتل الإمام علي، فعبدالرحمن بن ملجم كان يتعامل مع الوحي كنص مباشر يمكن النظر إليه كما هو، فيسقط آيات النفاق على من شاء وآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فيصبح الإمام علي مقتولا بدم بارد يتقرب فيه ابن ملجم بهذه الفعلة الشنيعة إلى الله وفق منطوق الآية، ولهذا تجد موقف رجال الدين مختلفا بين قاتل علي وقاتل عمر، مما لا يتسع مقال لبسطه، ولكن هذا الموقف هو نفسه الذي جعل بعض علماء المذاهب الإسلامية يعتبر كل فظائع داعش بالقتل والسبي مجرد (ضلال) بسيط واجتهاد خاطئ داخل حدود الملة، ليصبح الدين مجرد قبيلة مذهبية أيديولوجية تحرم عليه السبي والقتل داخلها، وتجيزه تماما خارجها، فاصلة دون أن تشعر بين رهان الدين ورهان الأخلاق، بينما لا تحمل نفس النظر لمذاهب إسلامية أخرى لم تمارس جرائم داعش، لكنها ترى فيها كل ضرورات الشرك والكفر، ولهذا فشرط العقيدة شرط أيديولوجي سياسي، وليس شرطا دينيا، ولهذا قال الرسول الكريم (ألا شققت عن قلبه!) رغم قرائن الحال في الخوف من السيف لا الخوف من الله.

اشتراط (النص قبل العقل) هو الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله تصفية الخصوم من أهل الملة الواحدة، لأن هذه اللغة تنزع عن (الرأي) الديني نسبيته وإمكانية الشك فيه، وتعطيه قدسية لا يمكن الطعن فيها ليقتتل أهل الإسلام فيما بينهم طيلة التاريخ الإسلامي أكثر مما حصل بينهم وبين أهل الملل الأخرى، هل القارئ بحاجة إلى تذكيره بتاريخ الخوارج طيلة التاريخ الأموي والعباسي، مرورا بفتنة الحنابلة مع الشافعية وغيرهم في بغداد، وصولا إلى من قتل بعض أهله قبل سنوات في سبيل دولة الخلافة الإسلامية في بلاد العراق والشام (داعش).

مثلهم تماما الخميني الذي وضع ولاية الفقيه (عقل الفقيه) مكان (النبي)، فهو الوحيد الذي يستنطق (النص)، فما ينطق به رجل الدين من رأي (عقلي) مستند فيه إلى دليل شرعي اختاره بالعقل ورجحه بالعقل من بين نصوص أخرى قد يخالفه فيها علماء آخرون، هو (الوحي) الذي لا ينطق عن الهوى، ولهذا رأينا إيران حتى هذه اللحظة تعاني عجزا لا يليق بالحضارة الفارسية، وصل بها إلى انتقاد الرئيس الإيراني روحاني لمشروع خامنئي في (أسلمة العلوم)، وأسلمة العلوم باختصار، هي تحويل النص الشرعي إلى أيديولوجيا مغلقة يستنبط منها كل العلوم من الفيزياء حتى علم الاجتماع، وكل هذا يقود إلى الدوغمائية، ولهذا ليس غريبا أن ترى (الإخوان المسلمين) هم عرابو هذه الفكرة التي ما زالت بحكم أربعة عقود من الهيمنة الفكرية موجودة، حتى داخل عقول كثير من الأكاديميين عندنا.