أسلحة دمار ناعمة كان مقالي السابق الذي فوجئت حقا بصداه وردات فعل القراء له.. بين مؤيد وبين معارض برقي.. وبين معارضين بعنف وتنمر، وطبعاً يعلم كل ذي عقل يعي أسباب ردات الفعل القاسية تلك ومن ورائها!.

وأنا ما زلت عند رأيي.. يجب أن ننتقي المحتوى المقدم على شاشة شهية، من دراما دسمة بكل ما يصيب العقل بتلبك فكري يسمم أفكاره.

مجتمعنا وما نعيشه الآن من تحولات وما نسعى إلى تحقيقه من أهداف رؤية سمو ولي العهد الواعدة، يتطلب منا أن نضع أرجلنا على أرض صلبة لمجتمع متوازن الفكر، معتز بالهوية ومؤمن بالهدف والغاية، وجيل قادم يدرك تماما أن من لا ماضي له ولا قيم يتمسك بها، لن يكون له حاضر يعتز به ولا هوية تميزه عن غيره من المجتمعات والأمم.

عوامل وطرق زرع كل هذا في فكر وعاطفة أفراد المجتمع كثيرة.. ولكن ما يهمني الحديث عنه في هذا المقال، الفن بمساراته المختلفة من مسرح وسينما وموسيقى ودراما، وغيرها من الفنون التي غالبا ما تجذب القلوب وتستميلها، وهذا ما انتبه له البعض فاستخدموه في السيطرة على العقل من خلال تغير أنماط فكرية وإيديولوجيات لمجتمعاتهم، بما يعود بالنفع عليهم وعلى أوطانهم. أو من خلال استخدام البعض الآخر له للسيطرة الفكرية على مجتمعات أخرى لأغراض سياسية أو اقتصادية، تجعل من الشعب أكبر داعم لها، أو مستسلما منتقدا كارها لقيمه فاقدا هويته..لا يذود عن وطنه متى ما دعت الحاجه إلى ذلك..

قوة تأثير الفنون، جعلت من الطبول والأهازيج قديماً ومن الأغاني الوطنية حديثاً، محفزات توحد العاطفة وتشحن الهمم، ومن عاش أو تابع أفلام الأبيض والأسود لاحظ كيف كان تأثير أغاني عبدالحليم وأم كلثوم وغيرهما في حروب تلك الفترة.

كذلك المسرح قديماً أو حديثاً من خلال الأعمال التي كان لها أثر بالغ في عقول الشعوب وتوجيهها نحو قضايا أو توجهات معينة بطريقة جاذبة غير مباشرة.. وبرعت في ذلك مسارح الكويت وسورية ومصر.

أما الدراما السينمائية أو التلفزيونية، فهي قد تكون الأكثر تأثيراً في وقتنا الحاضر، وأكثر ما برع فيها الدراما التركية، التي رغم كل الملاحظات عليها إلا أنها فرضت نفسها على الخارطة العربية بانتشار عجيب، سحب البساط من الدراما المصرية التي كانت رائدة برقي، بجانب الدراما اللبنانية والسورية والخليجية، حين كانت القيمة المعنوية هي المهم، وقبل أن تكون المادة هي الأهم من المحتوى.

ما يميز الدراما التركية أنها استمالت القلوب برومانسية كاذبة يفتقدها الناس، وأولهم التركي نفسه، في زمن العمل والمادة ومطحنة الحياة، كست قلب المشاهد نظارة رومانسية جميلة، حجبت عن عقله رؤية بذور العنف والانسلاخ من القيم وغيرها من سلبيات تزرع في العقول.

السؤال المهم.. ماذا نفعل للوقوف بوجه الدراما المستوردة، سواء أكانت تركية أو كورية أو هندية، أوروبية أو أمريكية؟.

ما الحل حتى تكون الدراما عندنا بشكل خاص، والفن بشكل عام شريكا فعالا في الوصول إلى الهدف في كثير من القطاعات كالتعليم والترفيه والثقافة والسياحة؟

وكيف نصنع فناً لتكون أعمالنا الدرامية سفيرة لنا، تنقل صورتنا النقية للعالم أجمع من غير تشويه؟!

في رأيي المتواضع أن أول ما يجب أن نحرص عليه هو تطوير صناعة الدراما سعودية الأصل والمنشأ، نعطيها من اهتمامنا الكثير، ونسخر لها طاقات وطنية مخلصة، توازن بين العائد والمضمون، لتقدم أعمالا فنية رفيعة المستوى.. وهذا لن يحدث ما لم تساهم المؤسسات المختلفة ورجال الأعمال بجزء من رعايتهم لها، كي تخفف على المنتج الخوف من الخسارة، وتحفزه ليبدع ويقدم قطافه الدرامي للمجتمع، ليذوق حلو زرعه، وبالتالي يقبل عليه بطوعه مشجعا إياه على إنتاج المزيد من الأعمال التى تصب في مصلحة الوطن، من خلال دراما تستخرج مخزون الكنوز السعودية المستوحاة من التاريخ والحياة الاجتماعية، فتاريخنا يستحق أن يوثق درامياً، لاننا وُهِبنا كنوزا تاريخية نستطيع أن ننظم من سيرها سلسلة درامية ملحمية تاريخية، تعيش معنا لسنوات، تحكي وتخلد سيراً، وأولها سيرة ملوكنا ابتداء بالقائد المؤسس الملك عبدالعزيز إلى يومنا هذا عهد الملك سلمان أطال الله عمره.

رموزنا الثقافية والاجتماعية من نساء ورجال، وضعوا بإنجازاتهم بصمات عالمية سعودية، كلهم يحتاجون منا أن نترجم سيرهم إلى دراما تدخل القلوب لتتشربها العقول.

بالإضافة للملاحم التاريخية، نحتاج إلى الدراما الاجتماعية التي من خلالها نربط الماضي بالحاضر، ونعزز القيم والهوية ونحافظ على إيجابياتنا الاجتماعية ونتخلص من سلبياتها، وكذلك نصل الأجيال ببعضها، عبر غرس حب الجذور والقيم في الأجيال الجديدة، ولنعلمهم من خلالها أن من ليس له ماضٍ يفخر به، لن يكون له حاضر ولا مستقبل يعتز به.

نملك الأدوات ونملك المحتوى، وكل ما نحتاجه دراما محلية، ويمكن أن تكون خليجية مشتركة، لا مستوردة، تقف في وجه كل غزو فكري عبر الدراما.