قضيت إجازة رأس السنة في المملكة، قابلت كثيرا من الأصدقاء والزملاء، ولاحظت ظاهرة منتشرة في المجالس والاستراحات وهي (تحلطم التجار!). يشكون من السوق والقوانين الجديدة... إلخ. دعونا في هذا المقال نشرح وضع بعض التجار السعوديين حاليا بشفافية، ما لهم وما عليهم، وليس كله هجوما عليهم، بل أيضا سنناقش حال بعض الإدارات الحكومية:

أولا يجب أن يعرف التجار أن النظام القديم انتهى (خلاص يعني خلاص)، سابقا يجيء التاجر (بالبشت) وهو يعرف أن المناقصة سترسو عليه، وأن المسؤول لن يقصر معه، وأنه (قالط)، انتهى هذا الموال! وانتهت موضة أن المشروع الفلاني لفلان! على التاجر أن ينافس.

ثانيا: يجب أن يعرفوا أن شغل ما تحت الطاولة والرشاوى السابقة (ومش لي وادهن سيرك) انتهى أيضا، من بعد حادثة الريتز الشهيرة، كثيرون تربوا، وموظف الدولة بغض النظر عن منصبه يدري أن مصيره ليس فندقا، بل «يخب» عليه سجن الملز لو أخذ رشاوى!

ثالثا: العادة القديمة أن الدولة تطعم بالملعقة التجار أو ما يسمى (سبون فيدنغ)، انتهت أيضا، والطفل يحتاج فطاما، لعشرات السنين والقطاع الخاص يستفيد من العمالة الرخيصة، ومن المواد المدعومة، ومن مشاريع الحكومة، على الولد أن يكبر، وأن يعتمد على نفسه!.

رابعا: العقود السابقة أنتجت لنا بعض التجار الكسالى الذين تعودوا على الأمور السهلة التي لا يوجد فيها أي إبداع، فكثير منهم إما تاجر عقار يجمع بالأراضي البيضاء، ويتركها لمدة ويرفع سعرها مع الوقت، وإذا تطور قليلا أنشأ مولاً أو بضعة مولات، وصارت موضة، تحس الرياض أصبحت كلها مولات، لأن الموضوع سهل، و«ربعنا» يحبون التقليد. وهذا ما يفرق كثيرا بتفكيره عن المواطن العادي البسيط. أذكر في فترة من الفترات قبل سنوات، انتشرت موضة الخياطين، صرت تجد بين كل خياط وخياط، خياطا آخر! وأيضا موضة كبائن الهاتف (ثقافة القطيع)، مما يعني أن هذا التاجر رغم أمواله ومستشاريه ودراسات الجدوى، هو تقليدي جدا مثل المواطن البسيط، بل هي ثقافة قطيع، لكن من النوع الفاخر الذي يملك مالا أكثر، ما القيمة لإضافة مول آخر مثل البقية؟ ممكن يتحرك قطاع التجزئة في المدينة، لكن بعد فترة سنصل إلى مرحلة التشبع.

خامسا: ماذا قدم القطاع الخاص للوطن، نظير الخدمات الكبرى التي قدمها للتجار طوال عقود من الزمن؟ إلى الآن (شيل وحط) مع القطاع الخاص من أجل توظيف السعودي. البنوك (مثالا)، لو رأينا الضرائب على البنوك العالمية، كم تقتص من أرباحها؟ وكم يدفعون على الودائع؟ ومع ذلك تعطي أرباحا ولها مساهمات اجتماعية كبرى، بينما البنوك السعودية غالبا لا تدفع على الودائع فوائد، وليس هناك ضرائب على الأرباح، وإذا قدموا مساهمة اجتماعية معينة عملوا مهرجانا.

سادسا: المشاريع الخضراء وما أدراك ما المشاريع الخضراء! ولا أعني المشاريع الصديقة للبيئة، ولكن ذات المجال الأخضر (غرين فيلد)، أي الجديدة من الأساس، هناك عزوف كبير من التجار عنها، مع أنها هي ما يغير اقتصاد البلدان!. وإذا استثنينا المولات (الحب الأول والأخير لبعض تجارنا)، فإننا لا نرى كثيرا من المشاريع الجديدة لأنها تأخذ وقتا طويلا، حتى على صعيد التمويل الذي هو شريان الحياة لأي مشروع، تجد كثيرا من البنوك تتمنّع وتضع العراقيل لتمويل المشاريع الجديدة، إلا إذا كان (مول)، طبعا كثير منهم يتكلم عن الرؤية والإبداع، لكن وقت الجد ودفع الدراهم والتمويل تجده تقليديا جدا.

سابعا: عندما تقول لبعض التجار لماذا لا تناقش المسؤولين بشفافية عن وضع السوق وعن تخوفاتك إن وجدت، وعما تريد منهم أن يعدلوه أو يفعلوه، تجده يقول: لا أحب أن أخسر علاقتي مع المسؤول أو الوزير الفلاني، وهذه حجة قديمة ومردودة، لأن الوضع حاليا تغير، ولم يعد المسؤول هو الحاكم بأمره كما كان سابقا، بل لديه لجان وزارية، ولديه المجلس الاقتصادي يراقب أداءه، والجميع تحت تقييم ومتابعة سمو ولي العهد، لذلك (الاستقصاد) شبه اختفى، والمسؤول أو الوزير إن لم تكن صريحا معه، فهو ليس عرافا، انقل له حالة السوق بشفافية، ولا تقل إنه يعلم كل شيء، فربما التقارير التي تأتيه ممن حوله من جوقة المطبلين والمستشارين، وردية!.

الآن دعونا نتكلم عن الطرف الآخر من المعادلة، وهم الإدارات الحكومية والمسؤولون، لكن قبل ذلك يجب أن نؤكد على عنصر مهم، وهو أن الرؤية في جوهرها هي اقتصادية مع عوامل أخرى، لذلك هناك اهتمام وتركيز على دعم ومساندة، ورفع القطاع الخاص والتجار، لكن هذا الدعم يستلزم مجهود الاثنين التاجر والحكومة، لأنه كما قلنا (الإطعام بالملعقة انتهى).

أولا بعض المسؤولين ركزوا جدا على مؤشرات الأداء (كي بي أي)، وإلى حد ما تناسوا الصورة الكلية، أنا شخصيا لست ضد المؤشرات، بل أعتقد أنها مقاييس جيدة للأداء والإنجاز، لكن لا يتحول الموضوع لـ(شبه هوس) بالوصول للمؤشرات ونسيان الصورة الكلية للاقتصاد، العملية الاقتصادية معقدة ومتشابكة وأكبر من قياسها بـ(كي بي أي)، لكن المهم الوصول للأهداف الإستراتيجية والعليا حتى لو لم تتفق مع المؤشرات إلى حد ما.

ثانيا، الرؤية بطبيعتها عملية ديناميكية ومرنة وليست جامدة، ويتم تعديلها حسب الظروف، لذلك امتدحنا أن بعض الأهداف تم تأجيلها لبعض الوقت، بطبيعة الأمور لا تستطيع تغيير تراكمات عقود في وقت قصير، فالمرونة مطلوبة ما دام الهدف قابلا للوصول إليه، إن لم يكن اليوم فغدا، لكن المهم أن الزخم والاتجاه صحيحان.

ثالثا الملاحظ أن هناك قِلّة شهية من التجار، للاستثمار، وهناك اتجاه للاحتفاظ بالكاش، والوقت ملائم للمسؤولين للجلوس مع التجار، وطمأنتهم وتبديد مخاوفهم إن وجدت، ومحاولة تشجيعهم وفتح شهيتهم للاستثمار، فربما التاجر مع التغيرات الجديدة التي لم يتعود عليها، أحس بنوع من الخشية، فانكفأ على نفسه ويحاول حفظ الكاش، لكن التاجر عندما يحس بدعم الدولة وتبديد أي قلق لديه سينهض، لسنا نطالب بدعم كالسابق (فالأول تحول)، لكن لنجعله أكثر تكيفاً مع المتغيرات، ولا ننسى أن بعض تجارنا تعودوا لعقود على مدرسة واحدة لا يوجد فيها أي تعقيدات أو تحديات، مثل تجارة العقار وغيره.

رابعا هناك حزمة كبيرة بأكثر من 75 مليارا لتحفيز القطاع الخاص، إن علم كثيرون عن تفعيلها، ستُحدث دون شك زخما كبيرا، وحركة أكبر في القطاع الخاص.

أختم المقال بموقفين لصديقين، أحدهما أنعم الله، تاجر كبير، يؤدي عمله بإخلاص، كان مهموما، يشرح لي أن نسبة أرباحه قلت بشدة، خصوصا أنه لا يعرف «اللف والدوران» والغش، بينما الغش في مجاله أصبح سمة. أما الموقف الآخر فحدث بعده بليلة في دعوة كانت من صديق آخر، تاجر سعيد جدا، «يهلي ويرحب»، واكتشفت أن عليه ديونا وأموره المادية ليست على ما يرام، لكنه يعيش بسعادة، أطفاله مسرورون، وصحته ممتازة وهذا ما يهمه. وكانت مفارقة! عموما سعادتك أنت من يصنعها، سواء كنت تاجرا أو غيره.