«بلقيس» ملكة سبأ، امرأةٌ أديبةٌ عاقلة من بيت مُلْك، تعرف أمور السياسة، وتعرف وسائل التأثير، ولديها تقييمٌ دقيق للرجال والدعاة، وأن منهم أهل عقيدة صحيحة لا يتحولون عنها مهما كانت الإغراءات، لأن غايتهم الله والدار الآخرة، ومنهم من ليس كذلك وإنما يريد بعمله وكلامه الدنيا، فإن حصلت له، ترك ما كان يدعو إليه، بل وربما دعا إلى نقيضه، ولهذا لما جاءتها رسالة سليمان عليه السلام المتضمنة (ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين)، استشارت قومها، فاستعدوا بالقتال وقالوا: (نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد)، ولكنها لسياستها وتمام عقلها، لم تستعجل وتنخدع بقولهم، وإنما ذكرت سوء عاقبة الحروب، ورأت أن تتصرف سياسياً لتعرف حقيقة سليمان عليه السلام وما يدعو إليه، فدفعت إليه بهدية، وانتظرت الرد لتُقيِّم الموقف وفق المعلومات الواردة، وذلك أنه إن كان ممن يريد لعاعة الدنيا فسيقبل الهدية، ويتراجع عن رأيه، وإن كان يريد الله والدار الآخرة فلن يُقَدِّم على ذلك شيئاً من أمور الدنيا مهما عَظُمت، ولهذا قالت كما ذكر الله عنها في كتابه (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون).

جاء في كتب التفسير أنها قالت: (إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره)، وذكر شيخ المفسرين ابن جرير الطبري عن أبي صالح أنها أرسلت إليه بالذهب، وقالت: إن كان يريد الدنيا عَلِمْتُه، وإن كان يريد الآخرة عَلِمْتُه.

فلما جاء رسل بلقيس بهدية مَلِكتهم إلى سليمان عليه السلام، كتب سليمان عليه السلام إليها ما قاله الله تعالى: { أتمدونن بمال} نَكَّرَ «المال» على عِظَم مكانته عند الناس تحقيراً لأي شيء يُعارض دين الله، (فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون)، فلا أقدم شيئا على دين الله وتوحيده.

فكان من نتيجة ذلك أن عَرَفَتْ صدقه، وثبات موقفه، فتركَتْ عبادة الشمس، وأسلمت لله رب العالمين، وأخبر الله عنها أنها قالت: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).

فإن قيل هذه المرأة العاقلة «بلقيس» كيف عبدت الشمس من دون الله، أين عقلها؟

فالجواب ما ذكره الله بقوله: (وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) فالعقائد الباطلة، والبطانة الفاسدة، والبيئة الجاهلة، تذهب بصيرة القلب، ولهذا قال الله تعالى «إنها كانت من قوم كافرين».

وكما أن «بلقيس» عرفت حقيقة الرجال ودعاواهم، فإن أهل العقول الراشدة، من السياسيين والخُبَراء ونحوهم يعرفون الصادق الذي يريد الله والدار الآخرة في كلامه ومواقفه، وليس له مآرب سياسية أو مطامع دنيوية في ما يقول ويفعل، من الكاذب الانتهازي الذي يريد بعمله وقوله ومواقفه لعاعة الدنيا وأموالها ومناصبها، فيحترمون الصادق الواضح وإن خالفهم، ويمقتون الكاذب الانتهازي وإن تملّق إليهم، وقد قال الله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم)، وقال تعالى (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) أي: المتفرسون، الذين يعلمون حقائق الأشياء بعلاماتها وآثارها.