حرية الاختيار، حرية التحرك، حرية اللباس، حرية المشاركة المجتمعية، حرية التصرف في المال الخاص، حرية الاستقلال التام، المساواة في فرص العمل والتجارة والأجور مع الرجل... إلخ.

هذه قائمة مبسطة لبعض حقوق المرأة كإنسان، وهي في الوقت ذاته أهم المبررات التي تنقل المرأة أو الرجل -المطالِب بها- من خانة الأسوياء إلى خانة النسوية المجرمة مجتمعيا، حسبما يتم تداوله حاليا في المشهد السعودي.

وبالنظر إلى تلك المطالبات، وغيرها كثير مما لم أذكره، نجدها لا تعدو كونها مطالبة مشروعة ببعض الحقوق التي كفلها الشرع والعقل، ولكن معضلتها أن الأعراف والعادات والتقاليد تأباها.

وما يسميها البعض «نسوية سعودية» -سواء أطلقها من يتبناها على نفسه وعلى من وافقه، أو أطلقها الناقد لها، والناقم عليها على من يتبناها- فُهمت في سياقات خاطئة، أهمها: فهمها وفقًا للنسوية التاريخية التي تبلورت في الغرب، والتي تنزع في بعض تطرفها إلى اكتفاء المرأة بالمرأة، وإقصاء الرجل، حتى في مسألة الجنس.

وأجاد المعادون للمرأة، أو ذوو المعارك الشخصية الصغيرة التافهة، بسحب مواصفات النسوية الفاقعة على السعوديات والسعوديين المطالبين بفك بقية القيود عن المرأة السعودية، إلى درجة اتهام من يصفن أنفسهن كنسويات بالشذوذ الجنسي.

أما مدَّعو النسوية، فهم إما ممن ركب الموجة واتخذها موضة، أو كانت ردة فعل غير متزنة إزاء مواقف أسرية غير سوية، أو ممن توهمن أن مطالبتها بحقوقها حوَّلها إلى نسوية انتهت من انتزاع حقوقها، وتسعى الآن إلى ترسيخ نظرية تفوق وفوقية الجنس الأنثوي، أو «نسونجي» قميء يسعى إلى شهواته وأغراضه.

وهذا لا يعني خلو هذا التوجه من كثير من العقلاء الفضلاء -نساءً ورجالا- الذين يسعون إلى تطوير المجتمع السعودي، مواكبة لتطور الفعل السياسي والاقتصادي فيه، ومحاولة تحرير المرأة السعودية من أغلال العادات والتقاليد. وأنا أرى أن الغالب في هذا التوجه الرشد والعقلانية، ولا ينقصهم التمسك بالعقيدة الإسلامية، والوطنية والمواطنة الحقة.

وبالعودة إلى جذر المعضلة في مسألة التعاطي مع قضايا المرأة، فإننا نجده مركزًا في زاوية النظر إلى المرأة، واحتسابها على أنها إنسان أقل بمرتبة من الرجل، سواء قيلت بالمنطوق -كما في الزمن الماضي القريب- أو قيلت بلسان الحال كما يجري الآن من التفرقة بين الرجل والمرأة في المهام والواجبات والحقوق.

ويضاف إلى ذلك، أن المرأة تعدّ المعيار الأول لشرف الرجل، وسمعته في محيطه، والتي تتهاوى -السمعة- بمجرد أن يُمس أيٌّ من «حريمه» بما يخدش عفتها أو عذريتها، وهذا بدأ مع العربي منذ وُجِد، وحتى بعد مجيء الإسلام الذي ساوى بين الرجل والمرأة، في الثواب والتأثيم والجزاء والعقوبة، فيما يتعلق بالعفة والسلامة من العلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية، ولم يفاضل بين الجنسين في هذا الأمر بشيء البتة، إلا أن المجتمع الذكوري -بذكوره وإناثه- أعطى لنفسه الحق بتجريم المرأة حال مقارفتها ما يخل بشرف الرجل الجنسي، وقتلها بيد أقرب الذكور منها ليغسل عاره، في حين أن الذكر يقترف هذه المعصية ومثلها معها من جنسها أضعافًا، وتبرر فعلته بالجهل والطيش لا أكثر، بل ويدعون له بالهداية والصلاح، ما دام بعيدا عن طائلة القانون والشرع.

وحين الحديث عن النسوية، نجد أنفسنا أمام أسئلة مفصلية مُلحّة، وقد تكون أسئلة إشكالية، وشائكة. هذه الأسئلة المفصلية تفتقر إلى إجابة واضحة وسهلة ومبسطة، لفهم هذا التوجه المتزايد في وسائل التواصل الاجتماعي، بعيدا عن التجريم والتخطئة والتسفيه والإقصاء والمصادرة، وغيرها من أدوات إعدام الرأي والتوجهات، وشيطنة المصطلحات والمفاهيم، وكذلك حتى يمكن لهذه المصطلحات من الدخول السليم السلس إلى العقل السعودي والمشهد الثقافي السعودي، ونقده بحيادية لقبوله أو رفضه، دون خلق رأيين متشاكسين حولها، يذهب بالجوانب الإيجابية التي يمكن أن تفيد الدولة والمجتمع، وإعطاء فرصة أكبر لتجنب الجوانب السلبية المضرة فيه.

ولا توجد ثمة إشكال أو إشكالية في تعريف النسوية، أو حتى في مفهومها ومضامينها، فهي مستقرة من أواخر القرن العشرين تقريبا، حسب مراحلها وتحولاتها، غير أن المشكلة تكمن في مفهوم النسوية في البيئة الثقافية السعودية، والذي يبدو لي أنه أخذ الاسم العام، دون كثير من التفاصيل المتضمنة للمصطلح، وهذا من شأنه أن يخلق مفارقات كبيرة، وفجوات معرفية بين المؤيد والمعارض، وقد تتحول الحيادية في المسألة إلى حرجٍ وحيرة.

ولعل أبرز هذه الأسئلة التي أشرت إليها هي: السؤال حول النسوية، ومراحلها أو موجاتها، والسؤال حول النسوية حسب تشكلها في المشهد الثقافي السعودي، والسؤال عن صوابية أو خطأ النسوية، وفقا للمفهوم السعودي، والسؤال حول المتصفات والمتصفين بالنسوية، وسؤال التطرف النسوي وهو الأهم في نظري، والذي يمكن أن ننطلق منه إلى نظرية نسوية لا تكره الرجل.

وهي إجابات سأحاول مقاربتها والتعاطي معها في القادم من المقالات.

وعلى كلٍّ، أنبّه إلى أن غالب المجتمعات البشرية -ونحن منهم- يضع قوانين لا يستطيع التقيد بها، ومع ذلك يستمر في وضعها والتشدق بها ظاهرا، وكسرها في الخفاء، وفي هذا قمة النفاق، وقمة التزمت، والتناقض، ويجب علينا أن نأخذ زمام المبادرة بتدمير هذا التزمت بأقصى قدرة ممكنة، ويجب ألا ندع فرصة للكارهين ذواتهم قبل كرههم الآخرين، أن يدمّرونا، أو أن نكون ساحة لتنفيس كراهيتهم للحياة، ومن يحبون الحياة.

أخيرا، للرمز السعودي التنويري الكبير محمد حسن عوَّاد -رحمه الله- عبارات ملهمة، قالها في لقائه المتلفز مع الأستاذ محمد رضا نصر الله، في برنامج «الكلمة تدق ساعة» عبر التلفزيون السعودي عام 1979، وذلك حينما عرَّج على الاعتراضات والمضايقات التي واجهته بعد صدور كتابه «خواطر مصرَّحة، 1926»، فقال: «... كان الزمن معنا، وكانت سنة الحياة معنا، وكانت طبيعة الأشياء معنا، فكانت الأشياء تأتي بطبيعتها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، تتجدد الأفكار وتتسع آفاق الحياة عند الأفراد وعند الجماعة، وفي هذا الأفق تظهر الشخصيات القادرة على التفكير، وعلى الكتابة، وعلى العمل الإنساني، وعلى المشاركة في موضوعات الحضارة».