أقبل صاحبي نحوي من بعيد وهو يجر خطواته بتثاقل، لم يكن صعبا عليّ أن أقرأ معالم حزن قد كست معالم وجهه، لقد فزّني أمره وأهمّني مظهره، فما إن اقترب حتى بادرته سريعا: خير ما بك يا صاحبي؟ فقال لا شيء سوى مشاعر عاودتني اليوم بإحساس موجع عندما تذكرت رحيل أحباب وأصحاب رحلوا فجأة عن حياتنا، لقد تملكتني تلك المشاعر هذا المساء، فأحالت مسائي الشتائي إلى مساء حزين كئيب، تخيل يا صديقي في غضون شهر أزلت ثلاثة أسماء من قوائم هاتفي المحمول، لأنه لم يعد لي بها حاجة، وقد فارقني أصحابها، آه ما أقسى الفراق!

فقلت: وقد أطلقت آهة طويلة لكنها حبلى بأوجاع الرحيل وآلام الفقد، وأخبار الموت التي نتلقفها كل يوم، وباتت تأتي إلينا في مقاطع الفيديو، ولم تعد أخبار القنوات التلفزيونية ونشرات الأخبار وحدها من تنقل لنا حصاد الحروب والأمراض والحوادث المفجعة في العالم؛ إييييه كلنا يا صاحبي على سفر، أين الذين كانوا قبلنا؟ وأين الذين كانوا معنا؟ قل لي بربك أين هم الآن؟ أين الذين كنّا نجالسهم، نحادثهم، نحاورهم، نضاحكهم، ألم يرحلوا جميعا عنا بعيدا، ألم يكونوا إلى جوارنا ومعنا وبيننا وحولنا، وقد صدق الله القائل «كل نفس ذائقة الموت»؟!

كلنا يا صاحبي على سفر، ولن يبقى أحد مخلدا في هذه الدنيا الفانية، كلنا يوما سنفارق ونرحل، سواء طالت بأحدنا الرحلة في الحياة أم قصرت، سنرحل كما رحل من كان قبلنا مع شروق شمس، أو مع قدوم ساعات ليل بهيم، سنرحل لا محالة، انظر كيف نحن يا صاحبي نفرح بمرور الأيام والسنوات ونحن نقطعها، غير أنها يا صاحبي من أعمارنا التي تتصرم، ألم تقرأ لطرفة بن العبد وهو يقول «أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة...وما تنقص الأيام والدهر ينفد».

لكن يبقى السؤال الكبير يا صاحبي، ما الذي أعددناه لما بعد يوم الرحيل، ما الذي جهزّناه من زاد ومتاع لنا لـ«يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»، ما الذي حضّرناه من إجابات أعددناها، كي نجيب على أسئلة الامتحان العسير الكبير «عن العمر الذي قضينا سنواته فيما قضيناه يا صاحبي، وعن الشباب الذي أعقبه ضعف فيما أفنيناه يوم كان أحدنا بكامل قواه ونشاطه وعافيته وصحته، وعن العلم الذي تعلمناه، هل استفدنا منه وأفدنا منه في كل ما قرأناه وكتبناه وحررناه من مقالات وكتابات وتغريدات، وأخيرا، ماذا يا صاحبي عن المال الذي كسبناه، كيف اكتسبناه وفيما أنفقناه، وهل أجدنا أعمالنا وأخلصنا فيها وأتقنّاها كي تتبارك لنا لقمة الرزق التي نضعها في أفواهنا، والمال الذي يدخل إلى حساباتنا، تلك الأسئلة يا صاحبي تحتاج إلى إجابات مقنعة، تحتاج إلى إعادة كشف حساب يومي بل لحظي سريع قبل يوم الحساب، وتحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس، قبل أن تغرغر الروح وتذهب إلى بارئها.

كلنا على سفر يا صاحبي، فتلك سنة الحياة، ونحن أبناء دين وسطي عظيم لا غلو فيه ولا تطرف، لم يقل لك الدين لا تفرح، أو لا تسعد، أو لا تبحث عن ملذات البهجة الحلال بل قال لك «ولا تنس نصيبك من الدنيا» فلربك عليك حق، ولنفسك ولأهلك ولمن حولك كلها لها حق، لكن هذا النصيب من الحقوق المشروعة مشروطة بقوله تعالى «ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين».

كلنا على سفر يا صاحبي، فنحن في هذه الدنيا الدنية ضيوف عليها وراحلون، نعيشها ونحن في كل لحظة مع مواعيد، مواعيد مع الفرح، ومواعيد مع الأحزان والترح، مواعيد مع لحظات تسر، ومواعيد مع ساعات من أقدار الله قد تسلب ابتساماتنا، وتستدر دموعنا من مآقيها فنسكبها رغم محاولاتنا أن نخفيها، مواعيد مع نجاحات وعثرات، لكن دوما بطبع المؤمن بربه نحاول العيش لأن «أمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر»، لهذا فنحن نتقرب إلى الله بشكر نعمه كي تدوم، ونحيا بالأمل كي نعيش بسعادة، ونحتزم بالصبر كي نؤجر على ما يصيبنا، لهذا يا صاحبي نحن لا نجزع من موعد قادم لا محالة مع الموت، لأنه نهايتنا الحتمية شئنا أم أبينا، لكن كل ما يشغلنا ما بعد الموت يا صاحبي فنحن نريد أن نعمل لما بعده، كي نكسب رضا الله وجنته، ورحم الله أبا العتاهية وهو يختصر كل ما كتبته وهو يقول «الموت باب وكل الناس داخله... يا ليت شعري بعد الباب ما الدار».