يوفر لنا العلم بنظرياته ونماذجه ودراساته المتخصصة وتجاربه الدولية، كثيراً من المعلومات والتفسيرات العلمية والمنهجية، التي تذلل لنا الطريق الوعر، وتمهد لنا السبيل للوصول إلى الجادة الصحيحة، في جميع متطلبات الحياة المعاصرة، ومن خلاله يمكننا بناء برامجنا التنموية المختلفة بما تستهدفه من تطويرات، وما يتعلق بها من إجراءات وسياسات متجددة، تساهم في تحقيق تحول تنموي يؤدي لتطوير مسيرتنا نحو الأفضل.

وتجارب الدول المتقدمة فيما نستهدف تطويره من برامج تنموية وغيرها، هي بمثابة مصباح يضيء لنا عتمة المجهول، ليكشف لنا ما يخفيه الظلام بين جنباته، لنقف ونشاهد ونلمس نتائج تجارب دولية، أثمر طرحها بسبب سياسات وخطط تنموية ملائمة ومدروسة تناسب المرحلة التنموية وتطلعاتها ومقدراتها، وأخرى فشلت نتيجة لسياسات وأنظمة لا تخدم أهدافها ومرحلتها التنموية القائمة والمستقبلة، فمن خلال تلك التجارب الملهمة، نختزل ما نواجهه من عثرات وعراقيل تواجهنا، سواء للأخذ بها والاستثمار فيها، أو لتجنبها وتوفير ما تحمله بين طياتها من جهود ونفقات وزمن لا تسترد أيامه ولا تعوض فرصه الضائعة.

تعد المرحلة الثانوية بنظامها العام بما تتضمنه من مناهج ومقررات علمية وأدبية، نظام دراسي عالمي وتكاد تطبقه جميع دول العالم بمنهجه التقليدي المعروف، والذي يُعد في مضمونه المعرفي مرحلة إعدادية للتعليم الجامعي، أو ما دون الجامعي كالدبلومات والكليات التطبيقية المختلفة، مثل كليات المجتمع وغيرها من الكليات التطبيقية المتخصصة مهنياً وعلمياً، بل وتعد المرحلة الثانوية جزءاً من التعليم الإلزامي المجاني في معظم الدول المتقدمة، لكونها تمثل أساسيات التعليم الأساسي كمنهج متكامل في محتواه المعرفي، والذي يتحتم على كل طالب تحصيله.

وعليه فإن التوجه المعلن من وزارة التعليم نحو تغيير منهجية ونظام التعليم الثانوي بمجمله، إلى أكاديميات ذات مسارات متعددة (تقني وهندسي، شرعي أو حقوقي، مسار أدبي، إدارة أعمال....) وذلك بعد تصنيف الطلاب من الأول ثانوي وفق ميولهم وقدراتهم، بناء على آلية تجرى لتقييمهم وتوجيهم في المسار الذي يناسبهم، وبما قد يغني لاحقاً عن السنة التحضيرية في الجامعة؛ يعد من الجهود التطويرية المهمة للوزارة في محاولة مواكبة التعليم لمتطلبات سوق العمل، بتوفير مخرجات يمكنها الانخراط في سوق العمل بمساراتها التطبيقية الأولية، أو بتعميق التخصص المهني باستكمال الدراسة في الدبلومات العليا في الكليات التطبيقية أو الجامعات بناء على المعدل والطلب.

ولكن ما يجدر التنويه إليه وملاحظته في ذلك النهج؛ أن النظام الثانوي التقليدي في مساره المعروف سواء بشقيه الأدبي والعلمي، أم بنظام واحد مختلط في مقرراته العلمية والأدبية دون تعقيد وعمق في أحدهما - حتى لا يبتعد الطالب تماماً عن الشق الآخر- هو نظام عالمي في الدراسة للمرحلة الثانوية، وهي مرحلة تأسيسية ومعرفية لمرحلة تعليمية تليها، وإن وجود أكاديميات ذات مسارات متعددة، لا يغني عن وجود نظام الدراسة المعروف للمرحلة الثانوية بنظامه القائم، مع بعض التطوير في آليته وتطبيقه بما يسهم في تطوير مخرجاته، سواء فيما يتعلق بطرق التدريس أو المحتوى العلمي والمنهجي المطلوب.

وأن وجود أكاديميات ذات مسارات متعددة تبدأ ما بعد المرحلة المتوسطة، هو أمر مستحدث ولا بأس بالأخذ به لأهميته في إيجاد مسارات مهنية وتطبيقية للطلاب الذين لديهم الرغبة والميول نحو تلك المسارات، ولكن الذي لا يمكن تجاوزه واستيعابه هو أن يتحول تماماً نظام الدراسة للمرحلة الثانوية، إلى تلك المسارات الأكاديمية ويُلغى تماماً نظام الدراسة الأساسي للثانوية، وإن تكون تلك المسارات بعد التصنيف للطلاب من الأول ثانوي، بداية لإلغاء السنة التحضيرية في الجامعات.

وما يجدر أخذه في الاعتبار، أن الطالب في تلك المرحلة العمرية (الأول ثانوي) وإن جرى تصنيفه علمياً وفق اختبارات أو غيره، فإن شخصيته لم تتشكل بعد، ولم يدرك هو حقيقة ميوله وتوجهه المستقبلي الذي سيحدد خلاله مهنته وحياته ومستقبله المهني، وذلك ملحوظ بقوة عند الطلاب بعد انتهائهم من المرحلة الثانوية، فكيف بهم وهم قادمون من المرحلة المتوسطة.

أما السنة التحضيرية فهي نهج تقييمي متبع في معظم جامعات العالم، ومن خلاله يمكن تصنيف الطلاب ليأخذوا مساراتهم التخصصية المطلوبة، وبعض الدول تجعلها سنة انتقالية بعد الثانوية للتهيئة للجامعة والتقييم التحصيلي للمعارف السابقة، فهي سنة مطلوبة لدخول الجامعة كمرحلة أولية لأي تخصص، وباجتيازها يمكن للطالب الانخراط في التخصص المطلوب، مع الأخذ في الاعتبار توسيع سعة القبول ومعدلاته في التخصصات المطلوبة لسوق العمل والتنمية بصفة العموم.

أن تكون هناك أكاديميات ذات مسارات متعددة جيد ومحمود في نهجه، ولكن لا يمكن أن يُختزل نظام المرحلة الثانوية ويُلغى إلى تلك المسارات، النظام الثانوي هو الأساس القاعدي، وتلك المسارات هي الفروع المنشأة لتطوير نظام تعليمي خاص يخدم سوق العمل، ويكون التخصص الأعمق فيه عبر دبلومات عليا خلال كليات تطبيقية تكمل تلك المسارات، وهو مسار جيد لاستقطاب نسبة كبيرة من مخرجات الثانوية العامة سواء بمسارها التقليدي أم الأكاديمي بمسارته المتعددة.

الإشكالية الحقيقية والتحدي يكمن في جانبين؛ أحدهما أهمية توفير محتوى منهجي حديث ومتطور يواكب حاجة سوق العمل مضموناً وتدريباً لتلك الأكاديميات، أما الثاني؛ فهو يتعلق بأهمية التنسيق بين وزارتي التعليم والعمل، باستحداث مسميات مهنية وظيفية لتلك المخرجات بدرجاتها المختلفة سواء من الثانوي أو بعد الدبلومات، وتيسير إجراءات دخولها لسوق العمل وتأمين مشاركتها في جميع الفرص المتاحة المطلوبة بمستوى لائق، بما يخدم التنمية الوطنية ورؤية 2030، وبذلك نساهم في الحد من العمالة الوافدة في تلك الوظائف والفرص المتاحة، كما يمكننا امتصاص كثير من مخرجات التعليم التطبيقي، والحد من البطالة بمختلف مستوياتها التعليمية.

التغيير الجذري في النظام الدراسي لكافة المنظومة التعليمية للمرحلة الثانوية، أمر خطير وتبعاته كبيرة على أبنائنا وعلى الوطن، ويحتاج إلى مراجعة النهج التخطيطي والمنهجي له قبل التنفيذ، ولنستفيد من تجارب الدول المتقدمة في ذلك مع الأخذ في الاعتبار ظروفنا وتحدياتنا التنموية، وما نتطلع إليه من أهداف لا تسمح بالمغامرة في تجارب متفردة في نهجها التربوي والتنموي.