نستطيع أن نواجه كثيرا من التحديات الوطنية، بالتنسيق والتناغم بين القطاعات المختلفة في سياساتها التنموية، لتعمل جميعها على وتيرة واحدة وخط مشترك تتواءم فيه مع مستهدفات محددة تُسهم في تحقيقها قطاعات معنية بها، فيكون الإنجاز متكاملا في صورته ومستواه ونوعيته المرجوة.

هناك تشابك في المسؤوليات والمهام ما بين التعليم كقطاع يمثل القاعدة التنموية التي تنطلق منها المخرجات لتغذي المجتمع بما يحتاجه من موارد بشرية بمختلف مستوياتها ودرجات تأهيلها، وبين وزارة العمل ومسؤوليتها في تنظيم سوق العمل في إطار اللوائح والتشريعات، وما تبادر به من سياسات تسهم في احتواء مواردنا البشرية، وفي معالجة ما يواجهه السوق من تحديات تتعلق بكافة منظومته.

يتحمل التعليم في مسؤولياته الأساسية، التمكن من جودة تعليمه وتطوير منهجه التنفيذي، وتحديث كثير من التخصصات والمقررات في مضمونها المعرفي، وفتح تخصصات جديدة تواكب متطلبات العصر والسوق في متطلباته المتجددة، وذلك لا يتطلب إغلاق تخصصات محددة في الجامعات بحجة الاكتفاء وعدم حاجة السوق إليها، لأن المؤسسة التعليمية مسؤوليتها تقديم المعرفة في كل العلوم المعروفة بمختلف مستوياتها.

تنظيم سوق العمل واستيعاب مخرجات التعليم وتصحيح إشكالات السوق وتحدياته، تعتبر من أهم مسؤوليات القطاعات المعنية بالتوظيف، سواء الحكومي أم الخاص، وللمواءمة بين مخرجات التعليم بمختلف مستوياته وسوق العمل بمجالاته كلها، فإن ذلك يتطلب تحديث ومراجعة الأنظمة واللوائح الضابطة للتوظيف في سوق العمل، بما يخدم استيعاب ما يواجه السوق من تحديات تتعلق بموارده البشرية وهيكله التنظيمي، وذلك يتطلب تيسير التعاون في سبل التدريب المطلوبة للمخرجات التعليمية، وتحديث مسميات الوظائف وما تحويه تحت مظلتها وتتطلبه من تخصصات للمستويات الوظيفية بنوعياتها.

عندما تجد أن جميع مخرجات العلوم النظرية، كالشرعية واللغة العربية والعلوم الاجتماعية، لا يحتويها مسمى وظيفي إلا وظيفة معلم/‏ة للتخصص ذاته، فإننا نستطيع أن ندرك حجم المعضلة التنظيمية التي نعانيها في نظام العمل، والتي ينعكس أثرها في بطالة تنمو وكساد يقتل المواهب والقدرات المتاحة، وذلك ليس في تلك التخصصات فحسب، وإنما حتى في كثير من التخصصات الحديثة جدا والمواكبة للتقنية والعلوم، والتي تجد نفسها ضائعة وغير مصنفة في سلم التوظيف ولوائحه العتيقة، التي أصبحت حجر عثرة أمام التوظيف والتنمية وإصلاح سوق العمل.

ومن الطبيعي أن القطاع التعليمي لا يمكنه استيعاب جميع تلك المخرجات تحت مظلته، ولكن ذلك لا يعني كساد تلك التخصصات وانتهاء صلاحيتها وأننا لسنا بحاجة إليها، ولنستفد من تجارب الجامعات العالمية والعربية المتميزة التي تحوي جميع علوم المعرفة، ولم تُقدِم على إلغائها لعدم جدواها، وإنما يكون تجميد بعضها أو إلغاؤه أو الحد من القبول فيها بسبب التوجه نحو تخصصات محددة تستهدفها الجامعة لتتركز فيها جهودها ومخرجاتها.

التساؤل المطروح لوزارة العمل والخدمة المدنية، أليست هناك مجالات عمل تستوعب تلك المخرجات ونحن نتطلع إلى تنمية مستدامة؟! أليس في تهميش تلك المخرجات هدر لموارد وجهود وطنية أُنفقت لسنوات؟!، إن كثيرا من المهام التي تتحمل مسؤولياتها البلديات والأمانات في المناطق وهيئة السياحة والتراث الوطني والثقافة والجمعيات ووزارة العمل ذاتها في الشأن الاجتماعي ومراكز الدعوة والعلاقات العامة والتوعية الاجتماعية، وقطاعات التخطيط والتنمية والزراعة والمياه والصناعة والتجارة وغيرها، جميع تلك القطاعات يمكنها إتاحة الفرص لتلك المخرجات للمشاركة في وظائفها، لتمكينها من المساهمة في عجلة التنمية بسواعد وطنية مؤهلة.

العلة الفعلية ليس في تلك التخصصات كما يعتقد البعض، وإنما العلة في خلل نظام العمل وتصنيفاته الوظيفية التي عجزت عن احتواء تلك المخرجات في لوائحها وحصرتها في التدريس فقط! نظام العمل هو من أسهم في تهميش تلك التخصصات وتجميد وجودها، وهو من نشر ثقافة خاطئة عقيمة، وهو من زرع قناعة مضللة في المجتمع بعدم الحاجة إليها، لأنه فشل في تصنيفاته الوظيفية عن احتواء مخرجات تعتبر أساسية في تنمية المجتمعات والحفاظ على تراثها وهويتها.

بالطبع إن اهتمامنا بتلك التخصصات الأصولية لتنمية أي مجتمع والمحافظة على هويته، لا يعني تجاهلنا لأهمية التخصصات الحديثة وضرورة الأخذ بها في تعليمنا، بل والتوسع فيها، بل هو مطلب وندعو إليه بقوة، لأن ذلك من متطلبات العصر والتنمية المستدامة التي نسعى إلى تحقيقها في جميع مقدراتنا ومواردنا ورؤيتنا، ولكن ذلك لا يعني إلغاء وتهميش تخصصات أساسية من العلوم المعرفية التي تتوارثها الأجيال ولا تفقد أهميتها بالتقادم.

لتحقيق تنمية مستدامة متوازنة تخدم تطلعاتنا الحالية والمستقبلية نحتاج إلى إستراتيجية مشتركة ورؤية متكاملة واضحة، تلتقي فيها سياسات قطاعاتنا المؤسسية، وتتعاون خلالها بجهود متناسقة، تسعى جميعها لتحقيق أهداف تنموية محددة، تسير وفق خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، تخضع لنظام مؤسساتي يقيس مستوى الإنجاز في مراحله المتراتبة، بحيث ينجم عنها في مجموعها منجز تنموي نحصد به مُنتَجا مثمرا، تشاركت في إخراجه جميع القطاعات كمنظومة مؤسسية متكاملة.