الناس مصطفون في الميدان صفين -يمينا ويسارا- بالمئات، وفي الوسط يجلس أهل المرافع أو الطيران يدقّون وهم يغنون:

يا بنات الهنود يا لاويات العمايم

ارحموا ذا الوليد اللي على الباب قايم

ويرقص الناس على بيت الهنود هذا، ويطربون ويرقصون رقصا فرائحيا عاديّا، ثم يخرج من بينهم شخص يرقص رقصا عاديّا، ويرقص الناس معه على دقات الطبول والزيران، وهو في حالة طرب أو مطرباني، كما يسمى في الجنوب، ويستمر الرقص إلى ما بعد منتصف الليل، حتى يصل هذا الشخص إلى مرحلة غير طبيعية، يأخذ غترته ويربط بها بطنه دائريا مع ظهره ويحزقها حزقا، ومعه عصا، عندها يعرف الناس أن هذا الشخص مزور، أو وصل إلى مرحلة الاستنزال أي أصابته حالة فيستنزل، أي يرقص حتى يسقط على الأرض.

فما الزار؟، وما علاقته بالجن أو الرقص الصوفي؟

يقول سعد مبخوت، خبير الموروث الشعبي في نجران، الزار في المنطقة هنا يعني حالتين: حالة الطرب، وهي ردة فعل وصوت سمعه من الطيران جمع طار، وعلى قول أهل نجران طيران والمرافع، فيتفاعل ويقوم ويرقص رقصا عاديّا، وهو غالبا رقص احتفالي.

أما الزار في الحالة الأخرى، فيكون ردة فعل الشخص غير طبيعية، يعني يصل الشخص إلى حالة الإغماء أو الإعياء، وهي حالة تسمى عندنا «استنزال» يعني يطيح وتصيبه حالة. والغناء في الزار له «بيوت» أي «أبيات شعرية» و«البيوت» تعني دَقة تختلف عن دقة، البيت الفلاني له دقه معينة، والبيت الثاني له دقه معينة وله اسم، البيت فيه أسماء منها، يعني هذا فلان طاح على بنات الهنود أي سقط أثناء غناء بيت الهنود.

بنات الهنود هذه ليس أي واحد يلعب عليها. مثلا، الشخص الذي «استنزل» يمكن يطيح منها، وهناك أناس موجودون في الميدان «مستنزلين» يكون لكل واحد بيت يطيح منه، ولكل بيت مسمى، يتكون من بيت شعر أو بيتين، يرددها الناس الذين يدقون الطبول معه، فمتى ما دقوا الطبول يصل إلى مرحلة غير طبيعية من الطرب معه. في بنات الهنود يردد الناس «يا بنات الهنود يا لاويات العمايم»، هناك بيت ثان اسمه هبش الهبوش ودقته تختلف.

استنزال الجن

ما يتردد بين العامة أن الزار مرتبط بالجن، وأن استنزال المزور أو المصاب بالزار نتيجة لتلبس الجن، ينفى الخبراء والمختصون ذلك.

يقول سعد مبخوت، هذا مجرد كلام، فالزار مرض وإذا جاء شخص واقف يتفرج وهو أصلا مصاب بالمرض، ممكن يكون وراثيا وهم يقولون من أين يجيء الزار؟ الزار يجيء وراثة من الأب أو الأم، وأحيانا ينتقل من الشخص المزور إلى شخص ثان ليس من العائلة، وقد تكون الظروف المحيطة تثير ذلك، فحين يكون المزور يلعب، لازم تكون الراحة زينة، وتكون الأرضية مرشوشة بالماء وهناك رائحة بخور، وبعضهم يذبحون له، وهذه ليست للجن -كما يفهم بعض الناس- وإنما هي نذور لله، يعني فلان عنده زار الليلة يروح يجيب ذبيحة وينذرها لوجه الله ما هو لوجه شيء ثان، لا عبدة للجن، ويلعبون عليها طول الليل، وبعد ما يتعشّون يدعون الضيوف والناس الذين يطقون يتعشّون عليها ذاك الليل.

ويوضح الطبيب النفسي الدكتور خلف لـ«الوطن» أنه حالة تسمى Trans Dissociative State، وهي حالة بين الوعي الكامل وغياب الوعي التام، وهناك حلقات تنتشر بين الرجال الصوفيين، وسط مراقبة لفيف من الناس، وعند زيادة الحركات، فإن الشخص تدريجيا يفقد درجة من الوعي وليس وعيه كاملا، ويمثل هذا الأمر بالنسبة للشخص نوعا من الشفاء.

فهناك أشخاص لديهم قابلية للاستجابة للإيحاء، وتسمى شخصيات هستيرية، أما غيرهم فيصعب عليهم الإندماج بهذه الصورة، لعدم القابلية السريعة والسهلة.

الزار بكل زمان ومكان

يبين الأخصائي الاجتماعي عبدالله المالكي لـ«الوطن»، أن تخصيص انتشاره لدى فئة دون أخرى خطأ، فلا ربط بينه وبين لون بشرة أو عرق أو غيرها، فهي حالة نفسيه وتسمى علميا وطبيا «اضطرابات التفارقية الانشقاقية»، وهنا يقع اللوم على المختصين في علم النفس، لعدم شرحها ووصفها كما يجب. ويوضح «هذه الظاهرة انتشرت في بلاد المسلمين بكثرة، فهو منتشر في مصر والسودان والمغرب العربي والعراق والحبشة التي تعد مهده الأول، ومنها وفدت إلينا في القرن الـ19عن طريق الحبوش، وكانت بلعبة المزمار بشكل غريب في طريقتها وكلماتها غير مفهومة، مما جعلها مرفوضة في المجتمع المكّي حينها، وتم طردهم وسجن بعضهم، ولها عدة مسميات عندنا، أهمها «الاستنزال» وأكثرها شهرة وكثيرا ما تربط بلعبة السامري، وهذا خطأ لأنها موجودة في جميع الرقصات، وتكون لها أغان بطريقة مخصصة في قرع الطبول وترديد كلمات غير مفهومة، وعندما يصاب بحالة إغماء يقومون عادة بتخليص المصاب بهذه الهستيريا بـ3 طرق منتشرة: إما شق الساق كي تنزف دما، أو إمساك أصبعه الخنصر ليده اليسرى بإحكام تام، أو عزف أغنية معينة حتى يفوق من هذه الحالة.

القوى الخارقة للمزور

عن قواهم الخارقة بسبب الجن، كالمشي على الجمر والقفز من النخلة سليما، وحمل الصخرة الكبيرة، يقول مبخوت: المزور يعمل أشياء كبيرة، يمسك الجمر في يده، أو يأكل الجمر أكلا، ثم تراه بعدها لم يصبه شيء، ولا نقطة دم، يفسرها المالكي بقوله: هذه ليست لها علاقة بجانٍ متلبس أو غيره، وإنما هم يمشون على الجمر بعد أن تكون عليه طبقة من الرماد، وتعزل وصول الحرارة، وإذا دققنا في الملاحظة سنجدهم يمشون على الجمر بعد اشتعاله بفترة طويلة وتغطيته بالرماد، ولكن لم نشاهدهم يمشون على النار وهي مشتعلة، كما يفعل بعض الرهبان الهنود، وهذا يزيل كثيرا من الشكوك حول الوهم الدارج خلف هذه الخرافة المسماة بتلبس الجن للإنس.

وفي المقابل اعترض بعض المتصلين بالزار على موضوع المرض النفسي، وتحدى علي بن صالح الأطباء والخبراء أن يأتوا ويحضروا سامرا أو رايحا للتأكد هل هذا الشيء يستطيع عمله إنسان، مبينا أنه فوق قدرته لأنه بعد ذهاب الزار يرجع الإنسان طبيعيا وكأنه ما فيه شيء.

وأبان ابن صالح «أنه إذا كان المزور مريضا نفسيا فلماذا يدعي أنه جني أثناء الزار».



استعراض واحتيال

هناك نوع آخر من الزار، يقوم على الاستعراض والاحتيال منذ القدم في الخمسينات والستينات الهجرية وما قبلها في المدن الكبيرة، انتشر حينذاك ما يعرف بحلقات أو حفلات الزار التي تقام في مناسبات الزواج والختان والأعياد، وكأنشطة شبابية لمجرد الترفيه، وتكون غالبا ليلة الجمعة، بعد أن تتحول من طقس عقائدي إلى حيلة اجتماعية لممارسة عمل ترفيهي كان يحتاج إليه المجتمع نساءً ورجالا ممن يجيد هذا اللون، ويندمج بالرقص الهستيري والحركات التمثيلية، وهي عوامل الإثارة الرئيسة في هذا اللون تُؤدَّى في الغالب على إيقاعات الدفوف الصاخبة، وأضواء الفوانيس أو «أتاريك القاز». وتنتهي مرحلة التسخين وتبدأ ساعة النشوة، وحينها يسقط مغشيا على الشخص، ويخبط رأسه بالأرض، أو يتمرغ على التراب.

ويتنافس كثير من الفرق في جدة والرياض ومكة والأحساء ووادي الدواسر، ومدن أخرى، على اجتذاب الجماهير التي تحتشد عادة للاستمتاع بهذه الرقصات المصاحبة للسامري، ويبحثون أو يتناقلون أخبار فرق زار مشهورة على طريقة تناقل مباريات النوادي الرياضية.

وكان لغالب الحارات في المدينة الواحدة فرقة أو عدة فرق، تختار إحدى الساحات القريبة من المناسبة مكانا للحفلة، أو تقوم بإغلاق أحد الشوارع العامة ورشّه بالماء بقيادة راقص الزار، وهو يضع خاتما بفص بارز في إصبع يده يسمى «الزيران»، إذ يلتفت هذا الراقص إلى الجماهير حوله لحظة بدأ الحفل، ويحذرهم أولا من نطق بعض الألفاظ التي قد تحول دون استحضار الزار، وهروبه، أو قيام أحد من الحضور بوضع يده في الأخرى والأصابع متشابكة أو يكون ملثما بالشماغ أو نجسا، لأن هذا يعوق حضور الزار، وبالتالي غضبه من صاحب الأصابع المشتبكة.

تبدأ بعد ذلك مرحلة التسخين لرقصته على صخب الطبول الهادرة للوصول المنتظر، عندما يسقط مغشيا عليه يخبط رأسه بالأرض، أو يتمرغ على التراب وهو في حالة تصلّب جسدي ورعشة قوية، إلى أن تصيح الأفواه الفاغرة من حوله «خلاص شيلوه» قبل أن يقوم أحدهم بنزع الخاتم من يده لقطع الاتصال بينه وبين عالم الزار.

الحالة هذه قد تمتد إلى أحد أو بعض الجماهير المتفرجة والمندمجة في الدور، فيسقط هو الآخر، وتجتاحه نوبة من الهستيريا والصراخ والتشنج بالطريقة نفسها التي مر بها راقص الزار، فيستبشرون بمولد موهبة جديدة.

ووصف مستشرق هولندي الدكتور جرونيه الزار قديما بقوله: في مكة عام 1885 يتم التوفيق بين المعتقدات وخليط من عدة رقى أو تعاويذ وطقوس مع إضافات عشوائية، فالمرأة التي يتلبسها الزار ترتدي الأزياء التي يطلبها هو، وتضرب إماء الشيخة «الكدية» على الطبول إيقاعات سحرية غريبة، وتمسح جسم المريضة حسب أصول معينة، ويعقب ذلك كل أنواع الأداء الغريبة التي تجعل هذا الاحتفال غير مستساغ بالنسبة للعالم الورع، فمثلا يذبح خروف ويلطخ جبين المريضة أو أجزاء أخرى من جسمها بالدم، ويجب على المرأة المريضة أن ترقص أو تحرك جسمها إلى الأمام والخلف، أو تقع على الأرض مغشيا عليها، وهكذا تأتي اللحظة المناسبة لتقول الشيخة هامسة: «لقد تركها الزار»، ويحدث أحيانا ألا تحدد هذه المرحلة إلا بعد ليلتين أو ثلاث ليال، مما يزيد بهجة السيدات المدعوات، وتصيب حمى الرقص في بعض الحالات كل المجموعة، وهذه ظاهرة يختلط فيها قليل من العدوى الحقيقية بكثير من الهزل «كأن تسقط إحدى المدعوات».