في البدء يجب التفريق بين الصحفيين والإعلاميين من جهة، ومؤثري التواصل الاجتماعي من جهة أخرى. الفئة الثانية لها الحق أن تمدح من تريد بمقابل مادي أو غيره، وهذا جزء من عملهم ومعروف للجميع، هو لا يأتي للمكان عادة للتقييم الموضوعي، بل لكي يقوم بدعاية معينة بغض النظر رؤيته وتقييمه للمكان أو السلعة، ويستلم مقابل ذلك مبلغا معينا -الله يرزقه- وهو يشبه إلى حد ما «الدلالين» قديما، يدلون على السلعة ويمدحونها، وتطور الوضع الآن مع التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا أرى بأسا أن يرفعوا أسعارهم بما أن عليهم طلبا، والتجارة عرض وطلب، ومهنتهم موجودة منذ آلاف السنين، بأشكال متعددة.

نأتي للفئة الثانية، وهم الصحفيون والإعلاميون، وهؤلاء من يطلق عليهم السلطة الرابعة مع السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وما يجمع هذه السلطات هو العدل والشفافية والموضوعية، وأعتقد أن هذا تكريم للصحافة أن تكون في المستوى الأعلى لأهم ثلاث سلطات في أي أمة أو بلد.

الموضوعية والشفافية تحتمان على الصحفي كتابة رأيه بتجرد دون تحيز، وأن يكون تقييمه أو نقده بناء على أسس خالية من المصالح والعواطف!.

لكن المصيبة الكبرى في الصحافة إذا تواطأت العلاقة بين الصحافة والإعلام والمسؤول، وتشابكت المصالح وصار الوضع (شد لي واقطع لك)، أو من باب اطعم الفم تستحي العين، ونسي الصحفي الأمانة الملقاة على عاتقه، وهي كشف الحقيقية وإظهار القصور إن وجد! فهنا يكون الصحفي أساء إلى ثقة قرائه ومواطنيه وحتى وطنه! وبدل أن يكون صوتا لهم أصبح صوتا للمسؤول. الصحافة كما اختصرها جورج أورويل والبعض ينسب العبارة لوليم هارست، هي «نشر ما لا يريد شخص ما أن ينشر، وما عدا ذلك علاقات عامة (دعاية)».

هدف الصحافة إظهار الحقائق دون تعديل أو تلوين، للوصول إلى الهدف الأسمى وهو تعديل الوضع للأحسن، غير هذا مجرد دعاية للمسؤولين، وشبك علاقات ومصالح، وهذا لا يليق بالصحفي أو الكاتب، كما لا يجوز للسياسي أو القاضي أو الموظف الحكومي عمل مصالح شخصية مع أحد المسؤولين، فإن الصحفي كذلك لا يجوز له عمل ذلك لأن هذا يتنافى مع طبيعة مهنته.

يجب أن تتحرر الصحافة من القيود والمصالح وتكون حرة لتكون مثمرة وفعالة، يقول الكاتب الفرنسي البير كامو «يمكن أن تكون الصحافة الحرة جيدة أو سيئة، ولكن بالتأكيد، بدون حرية لن تكون الصحافة أبدا، إلا سيئة».

يقولون إن الصحافة حاليا مع التقدم التقني تموت، وهذا غير صحيح، نعم الصحافة التقليدية الباهتة وتصفيف الأخبار من وكالات الأنباء الآن تموت، لكن الصحافة الاستقصائية، والصحافة الحصرية ما زالت منتعشة، وأكبر دليل الصحف الكبرى في العالم، قد تسبقك وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي في الأخبار، لكن عندما يكون لديك قصة حصرية أو تحقيق استقصائي، لا أحد سينافسك، بل سيعاد اسمك مرارا وتكرارا وتنسب لك ولحصرياتك. كثير جدا من القصص الكبرى في العالم خلال العام الماضي خرجت من جعبة الصحف الكبرى العالمية، وهي قادت المسيرة.

عندما تكون خارج المصالح تكون حجتك أقوى وتكون لديك مصداقية.

كان هناك نقاش قبل سنوات بيني وبين صحفي أمريكي ينتقد المملكة، وعادة الصحفيون الغربيون لديهم مصادرهم وعلاقاتهم، وقال لي لماذا أنت متحمس للحكومة للسعودية، وليس لك أي مصالح مادية معها؟ فقلت هذا يبين أنه رأي حر غير مدفوع، ما دامك تعرف حتى مصادر دخلي!.

من تجربة شخصية مرتاح فيها جدا، قررت من سنوات ألا أمدح أي مسؤول ولا تكون لي مصالح معه «علشان لا يطعم الفم وعلشان العين ما تستحي من أحد». الوحيدان اللذان أذكرهما في مقالاتي هما رمزا الدولة سيدي الملك سلمان، (أبا فهد) أحبه منذ سنوات طويلة قبل توليه الملك، وقلتها قبل عشر سنوات تقريبا فلم يتغير شيء، والأمير محمد بن سلمان، أذكره لأنه يمثل السعودية الجديدة التي نتمناها ونعشقها، غير ذلك البقية، هم مسؤولون قابلون للنقد والتقييم.

على الصحفي المحترف أن يسأل الأسئلة الصعبة ولا يردد كالببغاء ما يعطيه المسؤول. أعتقد أغلب القراء ملّ من صف الكلام والتطبيل للمسؤول. أتمنى أن أرى تحقيقا صحفيا استقصائيا لمواضيع مهمة لدينا، على سبيل المثال، كم تصرف الجهات الحكومية بشكل مباشر أو غير مباشر على مؤثري التواصل الاجتماعي من المال العام؟ أو مدى حرية المدينة الإعلامية التي ستنشأ في الرياض، لأن الحرية والنقد رئة الإعلام، أو عدد المسؤولين الذين لديهم فساد إداري، وتوظيف الأقارب في إحدى الوزارات، هذا ما سيعيد القراء للصحافة التقليدية! أما الأخبار الباهتة من وكالات الأنباء يكون القارئ تلقاها مسبقا في قنوات التواصل لحظيا، فلن ترجع الصحافة التقليدية لسابق عهدها.