بندر البشر

تلقي التشريعات القانونية بأثرها في المجتمعات والأفراد وأنشطتهم الاقتصادية، والأثر محل نقاش هذا المقال هو «الثقة الائتمانية». ولا يخفى على أي مدرك لمبادئ الاقتصاد وقوانين الأسواق، أن العلاقة بين الثقة الائتمانية والازدهار الاقتصادي هي علاقة طردية، فمتى تجذرت الثقة تدفقت الأموال وتداولت السلع، ومتى اضطربت شحت النقود وحبست البضائع.

ومن زاوية أخرى فإن المدارس القانونية الحديثة تميل وتتأثر بالمحركات الحقوقية والإنسانية بالمقام الأول، وأدى هذا الاتجاه إلى نبذ الإجراءات السالبة للحرية، سواء الجزائية أو الاحترازية، وذلك باعتبار أن الحرية حق أساسي لصيق لكل إنسان، وعلى إثر ذلك ظهر مفهوم العقوبات البديلة وغيرها من تطبيقات تحد من السجن وما يترتب عليه من أضرار تمس السجين وعائلته ومجتمعه، وهي متعددة وبالغة وليس المقام هنا لطرحها.

وبعد هذه المقدمة الضرورية أشير هنا إلى نظام الإفلاس، ونظام الشركات وما طرأ عليه من توسع في تحديد المسؤولية، وإلى قرار وزارة العدل رقم (7207) وتاريخ 04/ 06/ 1441، القاضي بإجراء عدد من التعديلات على اللائحة التنفيذية لنظام التنفيذ، ومن أهمها الحد من اللجوء إلى الحبس كإحدى وسائل التنفيذ إلا في حالات معينة ولشروط معتبرة.

وبتحليل الآثار الاجتماعية لهذا القرار نجد أنا تقدمنا حقوقيا وإنسانيا، بل واقتربنا من مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة التي تحث على إنظار المعسر وإمهاله، والتي لم يقرر في نظامها الجزائي الحبس كعقوبة، سواء في الحدود أو غيرها.

في الوقت ذاته، فقد نتعرض لتراجع اقتصادي على إثر انخفاض الثقة الائتمانية، بسبب فقدان الدائنين مراكز القوة التي خسروها بعد التعديلات الحديثة بالقرار المشار إليه.

وللخروج من هذا المأزق وهذه التقاطعات الحقوقية والاقتصادية يجب أن تتدخل التشريعات القانونية مرة أخرى لردم الفجوة الائتمانية التي خلفها الجنوح الحقوقي، وعلى وجه الخصوص ما يأتي:

أولا: تفعيل المواد الجزائية المنصوص عليها في نظام التنفيذ ضد العمليات الاحتيالية والتي نلمس تراخيا كبيرا بتطبيقها من قبل القضاء والنيابة العامة وجهات الضبط الجنائي، خاصة أن نسبة لا يستهان بها من طلبات التنفيذ ناتجة عن عمليات احتيالية، سواء من الدائن أو المدين، ويعود سبب ذلك إلى غياب نظام جزائي منفصل رادع لجميع جرائم الاحتيال، وكذلك ضم المطل للأفعال المجرمة وسن العقوبات الرادعة للحد من هذه الظاهرة، خاصة أن لذلك أصلا شرعيا، إذ أفصحت النصوص الشرعية عن أن المطل ظلم موجب للعقاب.

ثانيا: التوسع في استخدام الرهون المقبوضة وتسهيل معاملاتها، كون تصرفات الرهن الحالية مرتبطة بالعقارات على وجه الخصوص، ومن المعلوم أن العقارات متعذرة التملك لدى الأغلبية، أو مرهونة مسبقا لتمويل ذات العقار، أو مسكن خاص بالمنفذ ضده، فتقع خارج نطاق التنفيذ، وعليه يجب ضم المركبات الخاصة لقائمة الأعيان المرهونة وفرض القيود المانعة من التصرف بها، وكذلك الأعيان الأخرى ذات القيمة مثل الأسهم وحصص الشركات والأوراق المالية والتجارية والمستندات القابلة للتداول، والمجوهرات والمقتنيات الثمينة والمعدات والآلات وتوفير الخزائن المحايدة لحفظها لصالح أطراف العقود كضمانات مباشرة للتنفيذ.

ثالثا: الترخيص لمؤسسات التحقيق والتحريات الخاصة، كون الدائن يتحمل عبء الإثبات في قضايا الإعسار، ويتوجب عليه تقديم البينات المثبتة لملاءة مدعي الإعسار أو طالب الإفلاس، وذلك متعذر على الأفراد والمنشآت التجارية التي تبرم بطبيعة نشاطها العقود مع مجاهيل من غير الممكن الوقوف على حال كل منهم، وتتبع ما لديه من أموال أو أعيان يمكن التنفيذ عليها، مما يتطلب إنشاء كيانات متخصصة تقوم بأعمال التحريات على وجه نظامي واحترافي.

رابعا: الشفافية الائتمانية، وطرح السجلات الائتمانية للعامة ليتسنى لكل متعاقد معرفة حال الطرف الآخر ومدى موثوقيته الائتمانية قبل التعاقد معه والارتباط بأي التزامات مستقبلية.

خامسا: ربط المستثنى من أحكام التنفيذ بكفالة الدولة، بحيث يكون بيت المال ضامنا للمدين حال وفاته أو عجزه، إذ إن هذه الفئة ستتعرض بالضرورة للإقصاء من التعاملات الائتمانية جراء ارتفاع مخاطر فشل التنفيذ عليهم، وهذا لا شك سيشكل ضررا عليهم وظلما لهم لاختلاف ظروفهم عن غيرهم.

ختاما، نثمن هذا التطور العدلي من قبل مقام وزارة العدل، ونساند عموم التوجهات الحقوقية رغم ما قد يترتب عليها من آثار سبق ذكرها، ونتطلع لمزيد من الإجراءات التي تحفظ حقوق كل من الدائن والمدين، للوصول إلى بيئة استثمارية متينة، وتوازن عدلي منصف.