شابة لم تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرها، لم يعرفها أحد خارج «الفضاء الإلكتروني» عبر تلك المنابر التقليدية التي كانت هي الوسيط الأبرز لتقديم الأصوات الناشئة، والتي تتقدمها الصحافة والمؤسسات الثقافية. قررت تلك الشابة - المنتمية لعائلة من الرياض، سمتها العام محافظة طبقا لوصفها- أن تخرج شاهرة حرفها، بكل جسارة وثقة، استمدتها أولا من أسرتها المستوعبة لطموحها، ثم من لحظتها التاريخية، لتعبر بوضوح لافت عن وعي تلك اللحظة، محملة بأحلام جيلها، الذي أطلقه ذلك الفضاء عصافير تغرد حريةً وانطلاقاً، بعيدا عن الوصاية، والسلطة الاجتماعية التي لم يرضخ لها الجيل. فكانت رجاء الصانع وكانت «بنات الرياض»، تلك الرواية التي «هدمت المعبد» على من فيه من كتاب متمرسين، ومن نقاد منظرين، ومن أدعياء مهرطقين. وتسببت في إرباك لافت للمشهد الإبداعي في السعودية، قل مثيله، وربما لم يحدث مذ كانت «خواطر مصرحة» في عشرينيات القرن الماضي إن جازت المقارنة، مع الاعتبار لفوارق «زمكانية»، أو مع كل ما أحدثه صراع الحداثة / الكلاسيكية، الذي دار أغلبه في دوائر نخبوية، لم يحفل به المجتمع إلا فيما ندر، وفقط عبر المصدات الدينية فقط.

دوي هائل

مع انتصاف العشرية الأولى للقرن الواحد والعشرين، وتحديدا سنة 2005، دفع الراحل غازي القصيبي، بتلك الشابة، من خلال تقديمه لتجربتها الروائية الأولى، والوحيدة حتى الآن. طبيبة الأسنان، ابنة العاصمة الرياض، المتطلعة لقول شيء مغاير، وطرح سردية مختلفة تتفق ورؤيتها وفهمها لمعنى الحياة. يصدر العمل، الذي لم تجرؤ أي مؤسسة ثقافية على نشره، أو هي - الصانع - لم تفكر في تقديمه لهم لنشره محليا، ليحدث ما حدث، ويقع دوي هائل في المشهد برمته، تطايرت شظاياه في كل أرجاء الوطن، بل وصل بعض من تلك الشظايا للجوار الخليجي والعربي، حتى لامس الأفق العالمي. محليا علا الصخب عاليا جدا، روائيا، وفكريا، واجتماعيا.. تحول العمل لحالة ثقافية بشكل عام، دعت حتى من لا علاقة لهم بالقراءة والكتاب، لأن يتداولوا اسم «بنات الرياض» الرواية التي أضحت حديث الناس، ومحور طروحات الشبكة العنكبوتية.

السرد يترنح

إذا كانت الدراسات النقدية تشير إلى أسماء عبد العزيز مشري ورجاء عالم وغازي القصيبي وتركي الحمد وتلاهم عبده خال، كمبدعين أعادوا إحياء كتابة الرواية في السعودية مع نهايات الثمانينات ومطالع التسعينيات، بعد موات عقود، علا فيها نجم الشعر والقصة القصيرة، وحاولت أسماء محدودة أن تقارب الفن الروائي بهدوء وبلا كبير التفات له، فإن اسم رجاء الصانع، يظل هو الاسم الذي ترنح أمامه «مصطلح السرد» وحار كثيرا، وقدم نتاجه المعبر عن لحظته الزمنية المنتمية لانفجارات العولمة والثورة المعلوماتية، التي حركت الراكد اجتماعيا بالدرجة الأولى، وفرضت ضرورة وأهمية مراجعات حتمية لقيم فنية ومعايير إبداعية، تتماهي مع كل المتغيرات، التي وجدت نفسها فيها رجاء الصانع «بنات الرياض»، كاستجابة حتمية لما فرضته إيقاعات الزمن الذي تحركت فيه، محدثة كل ذلك الضجيج، لتجد ذاتها داخل دوائر أضواء عريضة، أمام سيل الكتابات عن عملها، بين رافض ومؤيد، ومنبهر، وفضولي ومتلصص، بل وحتى متعطش لدمها، حيث تقول «إنها تلقت مطالبات بالتوبة، وتهديدات بالقتل جعلتها تعيش هي وأسرتها قلقا ورعبا فترة من الوقت».

لغة جيل

لجأت الصانع للغة تخلصت من نخبوية الكتابة متماهية مع لغة «المنتديات» التي شاعت مع دخول شبكة الإنترنت عام 1998، مازجة العامية بالفصحى، والإنجليزية، أو ما عرف لاحقا بـ (العربيزي)، وهو النمط اللغوي الذي ميز الجيل بمختلف شرائحه، في ظل الانفتاح الكوني عبر الإنترنت، فأقدمت بحسب القصيبي في مقدمته للعمل «على مغامرة كبرى.. تزيح الستار العميق الذي يختفي خلفه عالم الفتيات المثير في الرياض»، فيما رأى مراقبون أن الأمر ليس مقتصرا على الرياض فقط، بل يمكن جره على عموم الفتيات في البلد مع فروقات طفيفة، قد تبدو جغرافية أو ثقافية أو اجتماعية. بينما قالت رجاء لـ«الوطن»: «استخدام الإيميلات ولغة الإنترنت، كان وسيلة للتعبير عن حقبة معينة وجيل لا حضور لهم في الرواية السعودية».

كسر التابو

خلال 6 سنوات راكمت الصانع حلمها وكتبت الرواية مباشرة، عن مجموعة صديقات يكتبن رسائل إلكترونية، تفاعلا مع رسائل أسبوعية لشابة غير معروفة، تكشف ما تقوله صديقاتها من أفكار هي بمثابة أسرار في مجتمع يحصي على الأنثى حتى أنفاسها. من هنا كانت الصدمة لمجتمع ينظر إلى نفسه بطهرانية، تلك الطهرانية التي رفع عبرها المناؤون لعمل رجاء الصانع أصواتهم، مهدرين دمها، معتبرين أنها مست عصب الذكورية المهيمنة على مفاصل حياة المرأة. الحياة التي تمردت على أطرها المحددة سلفا الفتيات «قمرة ولميس وسديم ومشاعل (ميشيل)»، وجسدتها وقائع ضمتها دفتا رواية لم تبق في المكتبات أكثر من شهرين لتنفد طبعتها الأولى، فتتوالى الطبعات حتى تصل لثمان في أقل من سنة، ويشيع فن لم يكن جديدا على السعوديين، ولكنه لم يكن بهذا الشكل المغري ليتصدر المشهد الإبداعي، وتظهر عشرات الأسماء التي تحاول كتابة الرواية، لكن أي أحد منهم لم يكن رجاء الصانع، ولا أي عمل كان «بنات الرياض»، الذي حاز السبق في قطف ثمرة الانفتاح عبر الإنترنت، ليطرح ما كان «تابو» في الكتابة المحلية، حتى وإن كان مجرد خيال منطلق للكاتب، كما تقول رجاء، حيث كان معظم الكتاب قبل بنات الرياض - منذ «التوأمان» أول عمل روائي في السعودية لعبد القدوس الأنصاري 1930- يهربون بشخوصهم لخارج الحدود، ليمارسوا حياتهم الطبيعية بعيدا عن سلطة الرقيب، وسلطة المجتمع.

معاناة وملاحقات

الصانع استعادت مع «الوطن» رهاب تلك الفترة قائلة: «كانت تصلني عبر موقعي الإلكتروني الذي أصبح منبرا للنقاش حول الرواية والمجتمع السعودي، تهديدات بالقتل وبتفخيخ السيارة الخاصة بي، حتى امتنعت عن الخروج من المنزل إلا إلى المستشفى الذي أطبق فيه سنة الامتياز. ناهيك عن السباب والدعاء في المنابر وخطب الجمعة وحملات الحج، كما تمت قرصنة الموقع أكثر من مرة، وفي آخر مرة طلب دفع مبلغ كبير لاسترداده فامتنعت عن الدفع». لم تتوقف معاناة الصانع هنا، فهي خططت منذ الصغر لأن تصبح كاتبة وطبيبة، وكتبت عن ذلك قصة في بالمرحلة الثانوية، وتضيف: اجتهدت لنشر روايتي بالتزامن مع استلام وثيقة التخرج من كلية طب الأسنان، وأسوة بإخوتي الخمسة الأطباء الأكبر مني تقدمت فور تخرجي لأرقى الجامعات الأمريكية لاستكمال التخصص الدقيق ونيل الزمالة الأمريكية. أثناء سنة الامتياز، رفعت ضدي دعوى لحرماني من البعثة، بحجة تشويهي سمعة بنات الرياض .. حولت القضية من وزارة العدل لوزارة الثقافة والإعلام حينها، وتم إسقاطها، وتدخل وزير التعليم العالي آنذاك الدكتور خالد العنقري لإنقاذي بعد حصولي على قبول لدراسة الماجستير والبورد بجامعة إلينوي، واستيفائي جميع شروط البعثة في برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله للابتعاث الذي كان في بداياته. بعد التخرج والعمل لفترة كأستاذ مساعد في إلينوي بشيكاغو، تقدمت بعد إقناع أعضاء هيئة التدريس لي بطلب وظيفة في طب الأسنان بجامعة الملك سعود.. رفضت الأوراق من عمادة الكلية، بسبب كتابتي بنات الرياض قبل خمس سنوات.

أعصاب تمنع الاشتياق

الآن بعد مضي قرابة 15 عاما على إصدار «بنات الرياض» ، تعمل الصانع رئيسة لشعبة علاج أعصاب وجذور الأسنان في إحدى مستشفيات الرياض. نشرت عددا من الأبحاث في مجلات علمية محكمة. وتشرف على تعليم طلبة البورد السعودي.. وتجد صعوبة في التفرغ للكتابة التي تقول عنها «أشتاقها وسط مسؤوليات العمل . قد يكون الأذى الذي لحق بي بعد الرواية سبباً آخر لانغماسي في شفاء مرضاي وتطبيبهم.. لكن إثبات النجاح على الصعيدين العملي والإبداعي كان دائماً هاجساً لدي منذ اختياري دراسة الطب ، وأبدأ في كتابة أولى رواياتي في سن الثامنة عشرة، كان مهماً بالنسبة إلي بعد نجاح الرواية أن أصب تركيزي على التفوق في مجالي الطبي».

ترجمة الرواية إلى 40 لغة ساهمت في انتشارها عالمياً، وتلقت الصانع عروضا لتحويلها لمسلسل تلفزيوني على محطات مثل اتش بي أو ونتفلكس، وطرحت أخيرا عبر راديو البي بي سي كمسلسل إذاعي. إلا أن حرص الصانع الدائم على إنتاج العمل بجودة عالمية بتجرد من أي أجندات سياسية أو إيديولوجيات، يقف وراء تأخير المشروع حتى يظهر بالشكل الذي يليق بالعمل وبالمجتمع السعودي، على حد قولها.

الطوفان

المحافظون خاصة ممن كانت لهم سلطة عبر المنابر المهيمنة على أفكار المجتمع وإنتاجها، سواء الدينية أو التعليمية أوالثقافية، عدوا مضامين الرواية بمثابة دعوة المرأة إلى التحرر ، فيما رأى من تعاطى مع العمل كفن محض، أن الصانع لم تفعل ذلك، قدر ما جسدت ما هو واقع بشفافية، حتى وإن بدا موجعا للبعض، إلا أنه يعبر عما تعيشه كثير من النساء في ظل التسلط المطلق للرجل، أو ما يعرف اصطلاحا بـ «السلطة الذكورية»، فيما ذهب طرف ثالث إلى أن مضامين الرواية سبق طرحها في أعمال سردية قبل رواية رجاء، بيد أن نجاح «بنات الرياض» ورواجها كالطوفان الذي أسال لعاب المئات لكتابة رواية، يرجع بالدرجة الأولى للغة التي كتبت بها، المتسقة تماما مع اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها، بكل ما يميزها من اختلاف ومتغيرات عما سواها من أوقات سابقا، واصفين رجاء بالذكاء الذي قادها لإنتاج عمل ذكي، في لحظة تاريخية، تعد مفصلية، تشهد مجتمعا يتغير، يستجيب للتحولات الكونية، يخلع أرديته القديمة بكل ما فيها مما هو غير ملائم لإيقاع العصر، ويتماس مع العالم إلكترونيا، متحررا من الخوف والرهاب الاجتماعي. هذا باختصار ما حاولت بطلات «بنات الرياض» الأربع التعبير عنه عبر رواية رجاء الصانع «بنات الرياض».

رجاء بنت عبد الله الصانع

مواليد الرياض 1981

طبيبة أسنان، روائية

شهادة طب الأسنان جامعة إلينوي 2009

الماجستير في علاج العصب وجذور الأسنان 2008

عملت في الجامعة أستاذا مساعدا ما بين 2008-2010

نالت شهادة الزمالة الملكية الكندية في علاج العصب والجذور في 2010

رُشّح كتابها لجائزة دبلن الأدبية العالمية IMPAC في 2009

ترجمت روايتها لعدة لغات عالمية

تبعات واجهتها الكاتبة

ذكرت الكاتبة رجاء الصانع أنه نتيجة إصدارها الرواية تعرضت لـ:

تهديدات بالقتل وتفخيخ سيارتها

قرصنة موقعها الإلكتروني

دعاء عليها وسباب في المنابر

محاولات حرمانها من الابتعاث الخارجي

معاناتها في التوظيف بعد عودتها