شهدت فترة الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية الثانية تناميا لثقافة «الاستفتاء» والإدمان على طلب الفتوى عند البعض في جميع العبادات والتعاملات الصغيرة قبل الكبيرة، وترسخ مقولة «ضع بينك وبين النار مطوع»، ما أدى إلى نشوء سوق للفتوى تعمها الفوضى، وتزايد أعداد المتجرئين على الفتوى بدون علم، من المتكسبين وطلاب الشهرة وتكاثر الفتاوى الغريبة المثيرة للجدل. لكن في الآونة الأخيرة يلاحظ تراجع ثقافة الاستفتاء، وتقلص أعداد مدمني الفتوى.

تراجع الفتوى

يلاحظ المتابع للمجتمعات العربية عموما والمجتمع السعودي على وجه الخصوص، والجدل الدائر في مواقع التواصل، وجود تراجع لثقافة الاستفتاء، وتقلص أعداد مدمني الفتوى، على الرغم من الثورة التقنية وانتشار عشرات المواقع الإلكترونية التي شكلت سوقا إلكترونية مفتوحة للفتوى.

في المقابل، تصاعدت حدة المنتقدين لفوضى الفتاوى وتزايدت قناعة الناس بتطبيق مفهوم الحديث «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك».

من مؤشرات تراجع سوق الفتوى خلال السنوات الخمس الأخيرة، هو انخفاض جماهيرية بعض المشاهير من رجال الدين وانحسار كثافة الحضور للندوات والمحاضرات التي يقيمونها، وتراجع عدد المستفتين في المدونات والمواقع الإلكترونية الخاصة بهم، أو عبر حساباتهم في مواقع التواصل، وكذلك تقلص عدد برامج الإفتاء في القنوات الفضائية والتي انحصرت تقريبا في شهر رمضان، وانحسار الزخم والمتابعة لها، على خلاف السابق إذ كانت تزاحم أقوى البرامج التلفزيونية من حيث المشاهدة والتفاعل، إضافة إلى انخفاض عدد رواد مواقع الإفتاء الإلكترونية المنتشرة على الشبكة العنكبوتية، إذ يلاحظ المتصفح لتلك المواقع قلة عدد الأسئلة الجديدة، وإعادة تدوير وعرض فتاوى قديمة، وتوجه البعض منها إلى استحداث مجالات جديدة ليس لها علاقة بالفتوى لجذب المتابعين واستمرارية الزخم، مثل الاستشارات الزوجية والنفسية، وتفسير الأحلام.

الفتوى الأكثر إثارة للجدل

يقول الباحث رشيد جرموني، في الفصل الخامس تحت عنوان «الإعلام وسوق الفتوى» من كتابه «الدين والإعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية»، الصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، إن ثمة تحولات دينية تشكل مجالا للنقاش والجدال.

وأوضح أن صناعة الفتوى دخلت مرحلة جديدة مع الثورة التكنولوجية في عالم «الميديا الدينية» إلى درجة أصبح معها المشهد الديني في حالة من «الفوضى» والاحتراب والتشظي والجدل سواء على مستوى اليقينيات الفقهية أو المذهبية أو على مستوى الممارسات الطقوسية أو من خلال التعاملات اليومية.

من يملك المشروعية الدينية

من التحذيرات التي يطلقها جرموني ضرورة الانتباه إلى الفتوى، معتبرا أنها كانت دائما بؤرة للتوتر بين السياسي والديني والأيديولوجي سواء بين مالكي السلطة المادية أو الرمزية أو بين التوجهات الدينية والسياسية والفقهية التي كانت تعيش في حالة صراع سواء كان ظاهريا أم خفيا حول من يملك الشرعية والمشروعية الدينية؟ ومن يستطيع ضمان تبعية المجتمع له؟ ومن يقدم نفسه كوصيٍ على الدين وعلى تأويله وعلى تقديم قراءة تتفق مع توجهات الدولة والأمة في مرحلة زمنية معينة.

فوضى عارمة

يشير جرموني إلى شبه فوضى عارمة في صناعة الفتوى والفتاوى والمفتين وما إلى ذلك من متعهدين كثر، استثمروا في أقدس رأسمال رمزي يملكه المسلمون وهو «الحامل الديني»، ومن دون شك فإن الفتوى لم تكن دائما وأبدا مجالا محصورا للجهاز الرسمي للدولة، بل شكلت على مدار التجارب التاريخية للمسلمين، مجالا لتداخل بل تنازع الرسمي مع الفردي، المؤسسة مع العالم.

فتاوى دعم التسامح

يضيف الباحث جرموني: «إذا كان ثمة فتاوى دينية رسمية دعمت قيم التسامح والتعايش مع الآخر، فإن فتاوى التنظيمات الإرهابية حرضت على العنف ونشر الكراهية ونبذ الآخر.

من جهته، حلل المؤشر العالمي للفتوى الفتاوى الخاصة بالتعايش مع الآخر من خلال رصد ما يقرب من 1500 فتوى تنوعت بين المؤسسات الدينية الرسمية، والتنظيمات الإرهابية، وتوصل من خلال الرصد والتحليل الى أن: فتاوى تعزيز قيم التسامح والتعايش مع الآخر شكلت 25% من فتاوى المؤسسات الافتائية الرسمية، وجاءت أحكامها بنسبة 100% داعية إلى التسامح والتعايش وقبول الآخر وإرساء دعائم الحوار.

فتاوى هدامة

حسب المؤشر، شكلت فتاوى التسامح والتعايش مع الآخر 49% من خطاب التنظيمات المتطرفة الإرهابية، وجاءت أحكامها بنسبة 100% هدامة لأسس التعايش والتسامح وناشرة الكراهية ومعادية لفكرة التعدد، بل جاءت أغلب أحكامها متعصبة ومحرضة على العنف والإرهاب وناسفة لفكرة الحوار.

وبيّن مؤشر الفتوى، أن أحكام فتاوى المؤسسات الدينية حملت دلالات إيجابية للتعامل مع الآخر، حيث حثت على احترام عقائد الآخر ودور عبادتهم، وحسن الجوار، والتهنئة في المناسبات، وجواز بناء كنائس، وتبادل الهدايا، وترسيخ قيم الحوار مع أهل الكتاب وغيرها من الأمور التي تعضد من فكرة الأخوة الإنسانية والتعددية الدينية.

في المقابل حملت فتاوى التنظيمات المتطرفة، أحكاما ذات دلالات سلبية في التعامل مع الآخر، وكانت مجملها دعوات عنصرية، حثت على نبذ الآخر ورفضه بالكلية، واحتوت فتاوى المتشددين على ألفاظ عنصرية ضد الآخر مثل: تحريم تهنئتهم، وتحريم إلقاء السلام عليهم، وتحريم توظيفهم في أماكن مهمة أو ما شابه، في توجه مخالف للشرائع وحقوق الإنسان.

انهيار أكشاك الفتوى

بحسب جريدة الوفد المصرية، نفذت لجنة الفتوى التابعة لمجمع البحوث الإسلامية في يوليو 2017، أحد أكبر الهيئات الدينية في العاصمة المصرية القاهرة، أول تجربة بإنشاء مركز للإفتاء داخل محطة مترو «الشهداء»، لتقديم الفتوى لمن يطلبها من المرتادين، إلا أن هذه التجربة لم تستمر طويلا خصوصا بعدما واجه المشايخ داخل المراكز سخرية كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتداول النشطاء تحت مسمى «أكشاك الفتاوى»، وانتشر هذا المسمى في الوسائل الإعلامية، حتى تم سحب هذه الأكشاك مرة أخرى من المحطات.

ويقول الكاتب والروائي عبده خال: «الآن تظهر أمور كانت مخفية ومغطاة مثل استحقاق المرأة للفتوى. ‏فكم هي الأمور التي مازالت مغطاة؟ وكم هي الأمور التي صار عليها الناس من غير تمحيص؟ وكم هي تصرفات قيل إنها الدين؟ ‏وكم هي الأمور التي تستوجب على المرء معرفتها من غير مفتٍ تتقلب آراؤه بتغير الأزمنة؟ استفت قلبك وإن أفتوك».

الإعلام وفوضى الفتاوى

اعتبر رئيس تحرير جريدة الاتحاد الإماراتية حمد الكعبي، أن الإعلام العربي، أسهم في نشر فوضى الفتاوى الشرعية، وتكريسها، وأتاح لأشخاص من غير العلماء والمراجع الفقهية المتخصصة الخوض في العبادات والمعاملات والأحكام، اعتمادا على ضعيف النصوص والموروث الديني، بما مثّل انحرافات عدة عن أركان الشريعة الإسلامية.

وأشاد الكعبي بالمبادئ المعتمدة في «مدونة العشرين» التي أطلقها «مجلس حكماء المسلمين» وناقشت قضية فوضى الفتوى، إذ ترى المدونة وجوب أن يمتنع الإعلام عن «عرض أو نشر أو إذاعة أو ترويج أي فتوى دينية غير منسوبة لجهات الاختصاص.

المطوع لا يملك مفتاحا سحريا

يقول صالح بن ابراهيم العوض: «تقول العامة في دارجها من باب الاحتراز في المآثم: ‏»حط بينك وبين النار مطوع»!

‏فهل من يفتي فعلا يحول بيننا وبين النار؟! «فالمطوع» لا يملك مفتاحا سحريا للمباحات والمحرمات.

مخالفة نص القرآن

علق يوسف أبا الخيل على هذه القضية قائلا: (التدين اليوم، في غالبه، يستند بالضرورة إلى مرجعية دينية تكون وسيطا بين المرء، والنص الموحى، والمثل الشعبي يعبر عنه بقوله «خل بينك وبين النار مطوع».. هذا طبعا مخالف لما نص عليه القرآن: «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا».

مثل يحث على الكسل

يقول الدكتور الكويتي مشعل الهاجري: (‏لو كان الأمر لي، لكان أول مثلٍ ألغيه من قاموس الأمثال الكويتية هو «لبّسها عالم واطلع سالم». هذا، لأنه مثلٌ يحث على الكسل الفكري روحيا، ولأنك إن تنصّلت من مسؤولياتك الروحية فما راح تطلع سالم، أصلا).

زمان ومضى

أما سالم العثمان فقال: «بعض الفتاوى تُفقد الناس الثقة فيمن عرفهم الناس على أنهم من أهل الفتوى.. فقد أصبح للناس عقول ومضى زمن مقولة «ضع بينك وبين النار مطوع».

خاتمة

سئل الشيخ صالح الفوزان عن قول من يقول: خذ بفتوى عالم وحطها في رقبته ولا ذنب عليك؟! ‏فأجاب: ‏»إلا عليه ذنب، العالم ليس بحامل عنك العذاب يوم القيامة، مثل ما يقولون: حط بينك وبين النار مطوع هذا غير صحيح».

عوامل تراجع طلب الفتوى

انخفاض شعبية بعض مشاهير الدين المتصدين للفتوى

انخفاض عدد طالبي الفتوى

تقلص عدد برامج الإفتاء في القنوات الفضائية

ارتفاع حدة الانتقادات في مواقع التواصل لبعض مطلقي الفتاوى الغريبة والمسيئة

انخفاض أعداد مرتادي مواقع اإفتاء الإلكترونية من طلاب الفتوى

تحول بعض مواقع الإفتاء الإلكترونية لمجالات الاستشارات الزوجية والطبية والنفسية

تزايد قناعة الناس بتطبيق مفهوم "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك"