«التجديد الديني»، عبارة عُقِد من أجلها المؤتمرات، وفي ثنايا المؤتمرات تكتشف قلقا من «التقليديين» يشبه قلق الوراقين والخطاطين مع ظهور المطبعة.

فآلة الطباعة -وخوفاً على المكانة ولقمة العيش- تحولت إلى آلة فيها من دنس الكفار الذين صنعوها ما يكفي لتحريمها، فكيف تتم طباعة الآيات القرآنية بها، لتختفي مع الزمن المهام التي تحتاج مئات الخطاطين والوراقين كتجارة ولقمة عيش ماتت بولادة المطبعة.

«التجديد الديني» في هذا الزمن يحتاج وعيا بعلمٍ حديث يسمى «تاريخ العلوم»، الذي بدأ مع اكتشاف النار والتأملات الذاتية للسحرة والعرافين، مرورا بفتوحات طاليس في الرياضيات ثم جاليليو في الطبيعيات حتى ماركس في التاريخ، ولنتخيل التجديد الديني على شكل طرح يتطلب «تجديد الخط العربي» سيجتمع الخطاطون زاعمين أن الخط العربي تطور مع فكرة التنقيط، ثم تطور أكثر وأكثر مع ازدهار الدولة العباسية... إلخ، غافلين عن أن العبارة المعتادة عبر مئات السنين «خطك يا فلان جميل، بارك الله فيك» لا قيمة لها مع اختراع الحاسب وأنواع الخطوط في نظام وورد المعرب مع لوحة المفاتيح، أي أن الخطاط يتوارى دوره أمام المبرمج، ليكون في الصف الثاني، فهل يقبل الخطاطون هذا الدور؟.

«التجديد الديني» يحتاج من رجال الدين التقليديين أن يكونوا على قليل من الإلمام بالنظريات المعرفية الحديثة في علم اللغة والاجتماع والنفس والسياسة والقانون والفلسفة، ولنتخيل أستاذاً في علم أصول الفقه ما زال يعطي في قاعة الدرس حتى هذا اليوم -وهذا يحدث فعلا- مسألة «مبدأ اللغات ما بين توقيفية أو اصطلاحية ويستشهد بالآيات والأحاديث ما بين معتزلة وأشاعرة» فكيف يتلقى الطلاب هذه المباحث كمسلّمات، إذا اطلعوا -وفق زمنهم مثلا- على بحث سفيركر جوهانسون في بيولوجيا اللسانيات «إنسان نياندرثال الناطق: ما الذي تقوله الأحافير والمورثات والآثار؟» و«البحث للمهتمين ترجمة: يامن عدنان صابور، منشورات مجلة الثقافة العالمية من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت العدد»172«ص133».

كيف سيتحدث رجل الدين عن مسائل النكاح والطلاق، دون أن يكون مطّلعا على نظرية الأشكال القانونية المتوازية «أشار للنظرية الدكتور محمد عثمان الخشت في معرض مشاركته في مؤتمر التجديد الديني المنعقد بمؤسسة الأزهر الشريف» وكان يقصد بها الموازنة بين شروط انعقاد النكاح وانعقاد الطلاق، فكيف يتم وضع شروط عند بناء بيت الزوجية ولا نضع الشروط نفسها عند هدمه.

«التجديد الديني» يحتاج علماء بالمعنى العلمي الحديث، ولا يحتاج رجال دين، فرجل الدين مزيج من «الواعظ والمحدث والفقيه والراقي والراوي والمأذون وإمام المسجد»، بينما العلم يحتاج إلى أزمة مرتبطة به، وهي «البحث»، ولا يكون البحث ذو جدوى ما لم يكن «بحثا علميا»، والبحث العلمي لا يكون علميا ما لم يكن «موضوعيا» وهنا يحصل التصادم -ولو بشكل غير مباشر- بين العلماء وهم قلة ورجال الدين وهم كثرة. فالعلماء الحقيقيون يعيشون شغف البحث بعيدا عن شغف الجماهير، أما رجال الدين فعرابو الديماغوجية في كل دين وملة.

«التجديد الديني» يكون دائماً في «الفكر الديني»، والفكر الديني في كتب التراث متكئ على «المنطق الأرسطي»، وقد أشار إلى ذلك أكثر من باحث بدءًا باشتغالات الدكتور عبدالواسع الحميري في نطاق «الحد الأرسطي» -لو التزمت اشتغالاته بحدٍ أعلى من الشجاعة الفكرية- وانتهاء بمداخلة الدكتور الخشت، التي لم تنقصها الشجاعة، في رده على شيخ الأزهر في مأساة التفكير الأرسطي التي تخلق «إما... أو»، أي إما معنا أو ضدنا، إما حقيقة مطلقة أو باطل مطلق، بينما المسألة -وفق مناهج الفلسفة الحديثة- تمتد بين «حقيقة مطلقة» مكانها السماء، وحقيقة نسبية مكانها الأرض، أو كما قال الدكتور الخشت عن نفسه محدثاً الحضور: «إما الخشت معنا أو ضدنا! هذا تفكير أرسطو، القائم على الفصل الابستمولوجي المعرفي القائم على الفصل بين بديلين، والإسلام لا يقوم على الفصل»إما.. أو«، وأوضح:»لا يستطيع أحد الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة «وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين»، ومن قال: «الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم» طبعا ستقول لي يا دكتور الخشت ذاكِر كتب التراث، ستجد المفسرين يقولون: الظن هنا بمعنى اليقين، وأنا أسأل: لماذا لم يستخدم ربي لفظ يوقنون؟!«، انتهى كلام الخشت.

»التجديد الديني«طوال تاريخه كان خارج المؤسسات الدينية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وسيكون على يد علماء»مثقفين«مستقلين، وسيأخذ المسلمون بأقوال هؤلاء كحقيقة يعيشونها، ويأخذون بأقوال المؤسسات الدينية كأحاديث يروونها ويتناقلون عبر الإنترنت تناقضاتها، أما حياتهم الخاصة فسيعيشون أطروحات من هم خارج المؤسسة الدينية أكثر مما يعيشون أطروحات المؤسسات الدينية، التي تنشغل بتشويه أبحاث من يعمل خارجها أكثر من إنشغالها بتجويد أعمالها، ولذلك أسباب تتجاوز رجال الدين أنفسهم إلى أسباب ذات جذور بطريركية أبوية، جعلت رجل الدين في كل الديانات يحرص على التمايز الاجتماعي، عبر هيئة خاصة تميزه عن بقية الناس، فهل الدين وظيفة ذات معنى سوسيولوجي مرتبط بالواقع؟ أم طريقة خلاص سيكولوجي مرتبط بالذات تجاه قلق الموت، أم إنه مزيج من هذا وذاك، إذ تتصارع الذاتية المثالية مع المادية الجدلية لينتج عنها ذروة "داعشية" تتفسخ من خلالها منظومة متكلسة من الأفكار التي كان بعضنا يراها في كتب التراث مثالية»أحكام السبي والاتجار بالبشر... إلخ«، فلما تشكلت عبر الواقع المادي في العراق وسورية، انفجعنا ببشاعتها، فعقدنا "لأجل نفيها«المؤتمرات تحت مسمى»تجديد الفكر الديني".