منذ اللحظة التاريخية التي رفعت فيها المصاحف على السيوف على ظهور الخميني و"الثورة الإسلامية" عام 1979، ما زال العقل المسلم ضحية لتراث ضخم من خطاب كامل من الشعارات الرومنطيقية والنزعة التي ربما تشهد نجاحا عابرا يستجيب لوعود الخلاص التبشيرية.

الزعماء الذين استفادوا من إقبال الشعوب لهكذا خطابات لم ينتبهوا جيدا للنتائج الكارثية والآثار السلبية المدمرة لخطاباتهم الأيديولوجية، التي تحل محل البرامج السياسية المحركة لوعي حقيقي، ذلك لأن الخلط بين الخطاب الأيديولوجي الأسطوري، المملوء بشحنات عاطفية، ينجح في خلق حالة تجييشية للجماهير، لكن صانعوه يغيب عنهم عن قصد وربما دون قصد، ما تتركه من مراكمة التخلف والضياع لأي نهوض حقيقي للفكرة الإسلامية بكل ما فيها من قيم أخلاقية عليا، تهدرها كمية الشعاراتية البائسة التي تخلط بصورة مأساوية بين أيديولوجيات متفرقة، ما زالت تعاني من خيباتها الأمة الإسلامية من قرون.

التلاعب الأيديولوجي

حاول النظام الإيراني 1986، تطبيق بعض من هذا التلاعب الأيديولوجي بالعقائد الشعبية، ووظف مئات من أفراد استخباراته، حاشدا إياهم ضمن حجاج بيت الله الحرام، غاضين الطرف عن محاولة فهم المأساة التاريخية التي تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بالحضارة المادية والحداثة العقلية، ولكن الأنظمة المتلاعبة بالشعارات ما زالت مصرة على إبقاء لحظة وعي الشعوب مغيبة.

يومها كان الرد عفويا، من أناس بسطاء، لم تلوثهم الأيديولوجيا، أو تخدعهم الشعاراتية حين خرج أبناء مكة في شمالها الشرقي، من أزقة الحواري، في الشعب، وسوق الليل، والسليمانية، وتصدوا بكل أنفة وروح إسلامية خالصة، ووطنية مستعرة، متكاتفين مع رجال الأمن، موقفين العبث الذي أرادت قوى الخميني الاستخباراتية ـ تعكير صفو الحج به، بواسطة شعارات سياسية تنادي بالموت لأمريكا وإسرائيل، في المكان الخطأ والزمان الخطأ.

وهو ما حاول النظام التركي امتطاءه، مجددا دون أدنى محاولة لفهم حركة التاريخ، مديرا ظهره لوعي الشعوب ويقظتها، ليكرر الشعاراتية الخمينية ذاتها، في المكان المقدس ذاته، رغم مضي أكثر من أربعة عقود على محاولات نظام إيران البائسة في تسييس وجود الحجاج والمعتمرين، وتحويل مكة المكرمة، إلى منبر سياسي لتسجيل نقاط سياسية عبر خلط أيديولوجي لمفاهيم وشعائر دينية بحتة، ولكن فات النظام التركي، أن وعي الشعوب، والمراقبين والدارسين، بات مدركا تماما لتوظيف الإسلام "شعاراتيا/أيديولوجيا"، والإصرار على إبقاء الممارسة السياسية للعقل الإسلامي عند النقطة الصفر، التي لم يبارحها منذ قرون.

كثيرون من المراقبين يتساءلون هل أطبق إردوغان فعليا على مشروع أتاتورك وتركيا الحديثة، معيدا إياها لوهدة التعصب العثماني، ممتطيا الوعي الساذج للأغلبية العظمى ممن يخاطبهم عاطفيا، ويعطل عقولهم شعار فاقع "بالروح والدم نفديك يا أقصى"، يرفعه "موظفو مخابرات" في مكان، ليس له علاقة بالشعاراتية السياسية الجوفاء.