المتأمل لواقع المملكة وتاريخها يدرك على الفور أن هذا الوطن الذي يضرب بجذوره في عمق التاريخ، والذي جعله الله مهدا لرسالاته السماوية يتمتع بمقومات فريدة قل أن توجد في غيره من الدول، وأن الآثار الموجودة فيه تجعله قبلة للمهتمين بالتاريخ الإنساني مثلما هو قبلة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إضافة إلى تميزه بالتنوع المناخي الفريد، والثراء الفلكلوري والثقافي، والمناطق الطبيعية البكر، والشواطئ الساحرة على البحر الأحمر والخليج العربي، والمرتفعات الشاهقة، والصحاري الذهبية، والبنية التحتية المتكاملة، والسمعة الاقتصادية والائتمانية المتميزة، وقبل كل هذا وذاك ما أنعم الله به على هذه البلاد من نعمة الأمن والأمان، وهي الميزة التي يفتقد إليها حاليا كثير من الدول التي كانت في السابق وجهات سياحية متميزة.​

ولا تكاد تخلو منطقة من مناطق المملكة من آثار تاريخية فريدة تجعلها قادرة على إعادة تطبيق تجربة العلا، بما يحول المملكة إلى ما يشبه المتحف العالمي، ففي منطقة نجران على سبيل المثال هناك الأخدود الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، إضافة إلى آبار حمى التي يعود تاريخها إلى عصور سحيقة. فالمنطقة التي كانت منذ آلاف السنين مركزا في الطريق الدولي الذي يربط بين شمال الجزيرة العربية وجنوبها، تحفل بعناصر وإمكانات تجعلها منطقة جذب سياحي مهمة في المنطقة. وهناك جهود ضخمة يبذلها سمو أمير المنطقة جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد، وسمو نائبه الأمير تركي بن هذلول بن عبدالعزيز، لتشجيع صناعة السياحة، وتذليل كافة العقبات التي تواجه المستثمرين في هذا المجال.

​والمتابع للنجاح الذي حققته الهيئة الملكية لمحافظة العلا في جعل المنطقة إحدى مناطق الجذب السياحي على المستوى المحلي والإقليمي، فتح الباب على مصراعيه لتطبيق التجربة ذاتها على مناطق أخرى داخل المملكة، لا سيما بعد تدافع مئات الآلاف من السياح لمشاهدة الآثار الفريدة التي تضمها العلا، والاستماع بالبرامج الثقافية المصاحبة لمهرجان شتاء طنطورة، بعد أن نجحت الهيئة في إعادة تعريف العالم بالمنطقة التي كانت في سالف العصر جسرا حضاريا بين الشرق والغرب، وملتقى للحوار الثقافي والحضاري، وجسدت قيم التنوع في أجلى معانيه.​

لم يكن ذلك النجاح وليد صدفة أو ضربة حظ، بل كان نتاجا لتخطيط دقيق وعمل شاق ومضنٍ، بدأته الجهات المختصة بتذليل كافة العقبات التي تحول دون قدرة الآخرين على الوصول إلى المملكة، فتم إطلاق التأشيرة السياحية الإلكترونية التي اختصرت الإجراءات.

كما بذلت الهيئة الملكية للعلا جهدا علميا مدروسا، شمل إقامة مؤتمرات وملتقيات ومنتديات عالمية، شكَّلت حملة إعلامية ناجحة للمنطقة، توّجت بقيام منظمة اليونيسكو بتسجيل المنطقة لتصبح إحدى أهم الوجهات العالمية المدرجة بسجلاتها، إضافة إلى الاهتمام ببرامج حماية المعالم البيئية وتطويرها، والعناية بصيانة المحميات الطبيعية وحمايتها من العبث، وفي مقدمة اهتمامات المبادرة حماية النمور العربية وغيرها من الحيوانات التي كانت مهددة بالانقراض بفعل الصيد الجائر. كما أنشأت الهيئة عددا من المطاعم العالمية بين أوديتها وجبالها، بعد تصميمها وفق أحدث المقاييس الهندسية، مع الاحتفاظ بخصائص الطبيعة الخلابة، إلى جانب تطوير وتدريب أبناء وبنات المحافظة للقيام بمهام الخدمات والإرشاد السياحي، في أكبر وأهم المعاهد العالمية عبر برامج ابتعاث بادرت بها الهيئة.​

هذه الجهود الضخمة فتحت كتاب التاريخ من جديد، لتكشف للعالم أجمع ما تتمتع به المملكة من إمكانات ثقافية وكنوز تاريخية وتراثية يمكن أن تكون مصدر جذب لأعداد هائلة من السياح من مختلف دول العالم، بما يشكل مصادر دخل جديدة قد تفوق في مردودها المالي كافة ما نتمتع به -من نعم الله- من مصادر أخرى، فضلا عن أن السياحة مورد مستدام غير قابل للنضوب، إضافة إلى أن عائداتها تصب في مصلحة جميع شرائح المجتمع مع تعدد جوانب الاستثمار في هذا الجانب، بدءا من توفير عشرات الآلاف من فرص العمل للشباب الوطني، وما تحققه من دخل للمستثمرين في مجال وسائل المواصلات، ومرافق الإيواء، ومحلات بيع المأكولات والمنتجات المحلية والهدايا والتذكارات، وغير ذلك.​​

بقي القول أخيرا إن رؤية المملكة 2030 التي كانت نتيجة عصف ذهني وتخطيط علمي شارك فيه آلاف الخبراء والمختصين وضعت السياحة في مقدمة الأهداف التي ينبغي تفعيلها، لتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، وأكبر دليل على ذلك الاهتمام هو حضور القطاع السياحي بقوة في المحاور الثلاثة التي أقرتها الرؤية، وهي: المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح، وذلك عطفا على ما يمثله من أهمية بالغة في تطوير العلوم والمعارف، وتعزيز الوحدة الوطنية، وترسيخ القيم العربية والإسلامية، والحفاظ على الهوية. كذلك فإن أولى مشاريع الرؤية التي بدأ تطبيقها فعليا على أرض الواقع هي المشاريع السياحية، وخير دليل على ذلك مدن نيوم، والبحر الأحمر، وأمالا، إضافة إلى مجمع القدية السياحي في الرياض، وقد قطع العمل في هذه المدن شوطا بعيدا. فالسياحة لا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد نشاط اقتصادي بحت، بل هي نشاط متكامل نستطيع عبره تعريف الآخرين بإسهامنا الحضاري والثقافي، وعكس تراثنا وتقاليدنا، والحفاظ على أمننا الفكري والثقافي، وتقديم صورة حقيقية تعكس ما يتمتع به إنسان هذه البلاد من شيم عربية أصيلة، وما يحمله في داخله من خير للعالم أجمع.