نمو المجتمعات وتطوُّر مكوناتها وتعدُّد أفكارها، يجعلها مجالا مفتوحا لصراعات في كل اتجاه، صراعات تفيد وأخرى تضر، مناكفات ومشاكسات قد تخرج أجمل ما لدينا، وقد تجرنا إلى هاوية لا مستقر فيها ولا نجاة!.

لا بد أن نؤمن بأن الفلسفات الاجتماعية وقراءة المشهد فيها يلزمها كثير من الحصافة والرأي السديد، وإجادة حل المعادلات الاجتماعية المعقدة، وفك التشابك بين أطراف الحياة المشتركة.

بنظرة تأملية لمجتمعنا وما يشهده من متغيرات، نجد أننا ما نزال قادرين على صناعة واقع يليق بنا، وما نزال نملك المهارة التي تمكننا من تجاوز الظروف والتكيف مع المستجدات، دون أن نخسر قيمنا وأنفسنا، وما تحمل داخلها من مكون قيمي ومعرفي ثري.

ما يهمني في هذه المساحة، هو تسليط الضوء على تعايشنا كأفراد معا، كيف ينظر بعضنا إلى بعض؟، وكيف يتفاعل بعضنا مع بعض؟، وكيف نقترب من بعضنا دون ريبة أو وجل؟.

دخول الإعلام الجديد وقنواته وسرعة مواقع التواصل في الظهور والإفصاح عن شيء، جعلنا نخاف كثيرا من سطوة العقول الضيقة ذات الحسابات المزعجة والمتكلفة، والتي لا تمت إلى فطرتنا بشيء من قريب أو بعيد.

ما نراه من تنمر متعدد الأوجه في مجتمعنا، يجعلنا نخاف أن يؤثر ذلك في تماسكنا وقوتنا التي هي أصل وحدتنا ونماء مجتمعنا.

من منا لم يخطئ، ومن منا لم يتهور، ومن منا لم يخنه التعبير وتنقصه الخبرة؟. كلنا معرضون لتجاوزات قد تكون محمودة، وقد تكون مذمومة.

السؤال هنا: ماذا يجب علينا كأفراد تجاه مثل هذه الممارسات؟ وماذا يجب علينا تجاه من ارتكبها؟.

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لا بد أن نشيد بحسن تعامل حكومتنا مع مثل هؤلاء الأفراد، ومدى صبرها عليهم وطول بالها تجاههم، وحرصها كل الحرص على أن تخرجهم مما هم فيه من براثن وسوء، ليعودوا إلى الطريق المستقيم، خلال مراكز الرعاية والحماية المنتشرة، وخلال تحسين الظروف ومنح الفرص ليكونوا مواطنين صالحين، مع الحرص كل الحرص على حمايتهم من عقوبات قد تطالهم من دول ومؤسسات خارج البلاد، فتنهي كل مشكلاتهم وتعيدهم إلى وطنهم، وهنا في مجتمعهم تفتح معهم صفحة جديدة داخل حدود الوطن الآمن.

هذا النهج لا بد أن يقتدى به كتعامل أفراد مع أفراد، وأن نتوقف عن انتهاج العداء والاستعداء الذي نلمسه من فئة تقدم نفسها وكأنها الحارس المؤتمن على الوطن والأخلاق، وألا صوت بعد صوتها، ولا صواب يغادرها.

ما نشاهده من حملات مسعورة تجاه أشخاص -شئنا أم أبينا- هم منّا رغم أخطائهم، ولكن بدل احتوائهم وإعادتهم إلى جادة الصواب، نبدأ في تشويه سمعتهم ونبذهم خارج المنظومة المجتمعية، وكأننا منهم براء، بل ويطالبون الدولة ومؤسساتها للنيل منهم والتنكيل بهم أكثر، والنتيجة ماذا؟ تنمرٌ إلكتروني يؤدي الى نبذ مجتمعي، وسجن داخل العزلة النفسية والعار الاجتماعي، وبالتالي موت طاقة بشرية قد يستفيد منها الوطن بعد إصلاح الخلل، أو حبس ذلك الكائن البشري الذي أخطأ داخل عقدة النبذ والذنب، ليكون هدفا لعدو يتربص بنا من الخارج، فيجد فيه أسلحة جيدة ليضربنا بها من الداخل.

لماذا لا نأخذ بمبدأ أنه لن يصبر علينا مثل أهلنا، ولن نتغير إلى الأفضل إلا بإرادة وحكمة الكبار؟.

أصبح الكثير يضع يده على قلبه، خوفا من موقف أو رأي كان له في سن مختلفة وزمن مختلف وظروف مختلفة، ولكن القناعات والاتجاهات تغيّرت فبناء عليه تغيرت كثير من الأمور. من الصعب أن نطلب من كل أحد أن يخرج ويتبرأ من كل شيء قدّمه، أو عرض له، لأن ذلك ليس حلا.

الحل الأنفع أن نمنحهم الأمان ونحتويهم، نترفق بمن يستحق منهم، وأن نتلمس الحل الهادئ له، لنحافظ على تماسكنا كمجتمع، ونقدم أنفسنا للعالم يدا واحدة، نشد بعضنا بعضا لمصلحة مجتمعنا ووطننا، بحيث لا نسمح للشياطين أن تتفرد بأهلنا وتغوي من أخطأ منهم أكثر.

ولأن الحقيقة ليست متاحة للكل، فلنوقف محاكم التواصل الاجتماعي التي يعيّن كل من أراد نفسه قاضيا وجلادا ومحاميا فيها، دون خبرة ولا حكمة. وفي المقابل، لا يجب أن نقرر بناء على فرضيات وظنون، قد تنكشف لنا سوءاتها فيما بعد.

في هذه الفترة الحساسة التي نعيشها، نحتاج إلى سلام اجتماعي بيننا، لتوثيق عهود حب وخوف على بعضنا، لنسعد كلنا ونضمن جودة حياة تليق بنا، وأمانًا يولد من ثقة في مسؤولينا، وولاءً لقادتنا، يستحقه وطننا.

فكلنا يرى ويلمس كيف أن أعداءنا يتصيدون لنا، ويعززون بعض التجاوزات، ويقدموننا للعالم في صورة لا تعبر عنا أبدا.

مؤلم أن تجتهد حكومتنا في تقديم صورة حضارية لبلادنا، وتأتي ممارسات واجتهادات تفسد صورتنا، وتجعلنا في خضم سيل من تبريرات وانشغالات بما لا يفيد ولا يقدم.

ما يجب علينا، أن ننتصر لثوابتنا، وألا نسمح بتجاوز الخطوط الحمراء، وأن ما نراه من أخطاء من فئة لم يُجْدِ معها النصح والحوار، أن يُرفع موضوعها إلى الجهات المختصة، وهي تعرف كيف تتعامل معها بعقل ورويّة، دون أن ندخل في خضم صراعات على منابر التواصل الاجتماعي، وطننا ومجتمعنا في غنى عنها.

رؤية 2030 ضمنت لنا مستقبلا يليق بنا، وتعددت خلالها برامج واتجاهات تضمن لمجتمعنا الرفاهية والتوازن المنشود.

لذا، لا بد من استثمار كل هذا في بناء مكون اجتماعي، مبنيّ على العدل والثقة والحكمة، التي تنبع من أصالتنا وسمو أفعالنا.