تنشأ الحضارات وتزدهر الأمم، حيث توجد مقومات الحياة الأولية، والتي تمثل بدورها النويات الأولى لمراكز الاستقرار البشري حولها، تلك هي سنة الحياة في الأرض بطبيعتها المستمرة، وقد جعل الله من رموزها وشواهدها آيات للعبرة والعظة، وللاستفادة منها واستثمارها فيما ينتفع به، بما يتلاءم مع الطبيعة الاجتماعية والتطلعات التنموية والبيئة الحضارية المحيطة بجميع ما تزخر به من موارد طبيعية وبشرية.

يقول سبحانه وتعالى «وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون»، إذ يسجل تاريخ الأمم والحضارات العريقة، عبر العصور، إن وجود الماء ووفرته كانا سببا في نشوء تلك الحضارات وازدهارها، فكان نهر النيل سببا في نشأة حضارة الفراعنة، ونهرا دجلة والفرات كانا سببا في ولادة حضارة ما بين الرافدين والهلال الخصيب، وأنهار الهند والصين نشأت حولها الحضارة الهندية والصينية.

وتشير الشواهد الجغرافية الطبيعية والبشرية في منطقة العلا وما جاورها من المحافظات، إلى أن المنطقة كانت تطفو فوق خزان من المياه الطبيعية التي تجري تحت ثراها وبين صخورها منذ زمن بعيد، ومنها تتغذى وتُروى المزارع الممتدة ما بين جبالها وأراضيها. كما تؤكد الشواهد الطبيعية أن المنطقة كانت منذ القدم موطنا للاستقرار البشري ومهداً لحضارات ازدهرت، فكانت طريقا تجاريا ما بين الشرق والغرب، ودرباً لمرور القوافل والحملات التجارية والحربية، فكان لأهمية الموقع دور في ازدهارها وحضارتها، وما زالت الجبال الشامخة توثق بصماتها بين جنباتها وعلى صخورها بشواهد حضارية ناطقة.

تُعد محافظة العلا بما تحويه من ثروات طبيعية ومقومات سياحية بديعة، متحفا طبيعيا زاخرا باللوحات الفنية المتباينة في أشكالها وأحجامها وألوانها، تتنافس بجمالها، تتنوع بمخزونها التراثي وذكرياتها المحفورة على صخور توثق تاريخ حجر وبشر، لتحكي قصص أزمان وتروي مسيرة حقب مناخية وعصور جيولوجية، وتشرح قصص حضارات بادت بعد أن كان لها شأن، ولم يبق منها سوى آثارها المحفورة، لتحتضنها آيات الله ومخلوقاته كشاهد على سنة الله في الكون، لنعتبر. ما تشهده محافظة العلا من حراك سياحي موجه برعاية وإدارة متمكنة من الهيئة الملكية للعلا، ليستحق التقدير والاعتزاز، والذي يؤكد أن المنطقة تحتل مكانا متميزا من برنامجنا التنموي في الاستثمار السياحي بمواقع التراث الوطني، بما تختزنه من كنوز تاريخية ومظاهر طبيعية، تستحق احتواءها والمحافظة عليها، بما يناسبها من آليات وإجراءات، وما تحتاجه من أهمية الأخذ بمتطلبات التنمية السياحية المستدامة للمنطقة، والتي ينعكس مردودها الإيجابي على المنطقة بمختلف مقدراتها البشرية والطبيعية، لما تتفرد به من ظروف بيئية، قلّما تجتمع في بقعة من الأرض على مستوى العالم.

حيث إن السياحة أصبحت صناعة تتنافس فيها الدول، بعد أن أخذت جانبا مهما من دخل كثير من دول العالم، وشكلت رافدا أساسيا لتحقيق التنمية المستدامة بجميع مقوماتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، لكثير من المناطق السياحية، فإن نجاح الاستثمار السياحي لأي منطقة تتوفر فيها مقومات سياحية، مرهون بمدى ما يحققه ذلك الاستثمار من مردود تنموي مستدام وقيمة ملموسة تشمل المنطقة جميعها، بما ينعكس تأثيره الإيجابي عليها، اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، وبما يسهم في تحقيق نقلة نوعية تنموية للمنطقة، وبما يصب في الصالح التنموي الوطني.

وجود المقومات السياحية يُعد النواة التي منها ينطلق مشروع الاستثمار السياحي، والذي يتطلب العمل على منظومة البنية التحتية للمنطقة، بما يتضمن توفير وسائل النقل للوصول إليها، وأماكن الإقامة والترفيه والشركات السياحية، والمطاعم والتسوق وغيره من متطلبات المناطق السياحية لاستقطاب السياح بمختلف أذواقهم ومستوياتهم.

من هذا المنطلق كان اللقاء العلمي للجمعية الجغرافية السعودية في العلا، بالتعاون مع الهيئة الملكية لمحافظة العلا، بموضوع يناقش المقومات الطبيعية والبشرية للمحافظة، في الفترة من 17-18/‏ 6/‏ 1441، وذلك في إطار المساعي الوطنية نحو تحقيق تنمية مستدامة بمفهومها الشامل في محافظة العلا المتميزة، بتراثها وطبيعتها الفريدة التي جمعت ما بين المزارع والجبال النادرة في تكوينها، وما بين تنمية سكان المنطقة المحليين بما يتمتعون به من خصائص سكانية وموارد، وما يتوارثونه من عادات وتقاليد وتراث يعكس هويتهم في التعامل مع مكونات المنطقة.

تقوم الهيئة الملكية بجهود متميزة للنهوض بالمحافظة سياحيا، من خلال برنامج تطويري يستهدف المحافظة على المواقع التراثية، وما تتطلبه من خدمات ومتطلبات للسياحة، علاوة على ابتعاث كوادر بشرية من سكان المنطقة للخارج، تؤهلهم للعمل في البرنامج السياحي المستهدف.

المشروع التنموي السياحي في العلا يحتاج إلى برامج ومبادرات تطويرية معاصرة، تهتم بالمحافظة على موروث المنطقة، وبما يتماشى مع الحداثة والنهضة السياحية التي تشهدها، وبما لا يفقدها هويتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، وذلك يتطلب العمل على الدفع بمشاركة جميع سكان المنطقة بمختلف شرائحهم، في البرامج السياحية، في إطار مشروع يستهدف تنمية المنطقة بالعموم، وألا يكون قاصرا فقط على الحلقة المحيطة بالمواقع السياحية المستهدفة حاليا، والمحددة تقريبا في المناطق الجبلية وبعض المناطق المحيطة بها.

ما زلنا نتطلع إلى مزيد من الجهود والعطاء من الهيئة الملكية للعلا، باحتواء البرنامج السياحي لمتطلبات تحقيق التنمية المستدامة الشاملة لجميع مقدرات المنطقة الطبيعية والبشرية، ونأمل منها إعادة توجيه بوصلة مستهدفات البرنامج السياحي، نحو استقطاب وصول المواطنين إلى العلا، للاستمتاع بكنوزها وتاريخها وفعالياتها، بأسعار يتميز بها المواطنون، وبما يعزز الانتماء والولاء الوطني، ويدفع نحو مزيد من الاستثمار في المنطقة بما يليق بها.